قال القاضي رحمه الله تعالى: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله:{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } [البقرة:127] وإن كان متأخراً في التلاوة، فهو متقدم في المعنى. قوله تعالى: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً ءَامِناً } والجعل هنا يعني التَّصيير، فيتعدّى لاثنين فـ " هذا " مفعول أول و " بلداً " مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان، و " آمناً " صفة أي ذا أمن نحو:{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة:21] أو آمناً من فيه نحو: ليلُهُ نائم. والبلد معروف، وفي تسميته قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من البلد. والبلْد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت، أي: صدرها، والبلد صدر القرى، فسمي بذلك. والثاني: أن البلد في الأصل الأثر، ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه. وقيل لبركة البعير: " بَلْدَة " لتأثيرها في الأرض إذا برك، قال الشاعر[الطويل]
إنما قال في هذه السورة " بَلَداً آمناً " على التنكير. وقال في سورة إبراهيم:{ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم:35] على التعريف لوجهين: الأول: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال:{ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [إبراهيم:37]. فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً. الثاني: أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً، فقوله: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً ءَامِناً } تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حارًّا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة، فقوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة، والله أعلم. فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم قيل: المراد من الآية دعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمؤمنين من سكّان " مكة " بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى " مكة " فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله ـ عز وجلّ ـ كما فعل بأصحاب الفيل. فصل في الرد على بعض الشُّبهات فإن قيل: أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير، وخرب الكَعْبة، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟ فالجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.