الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

قال القاضي رحمه الله تعالى: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله:وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } [البقرة:127] وإن كان متأخراً في التلاوة، فهو متقدم في المعنى.

قوله تعالى: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً ءَامِناً } والجعل هنا يعني التَّصيير، فيتعدّى لاثنين فـ " هذا " مفعول أول و " بلداً " مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان، و " آمناً " صفة أي ذا أمن نحو:عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة:21] أو آمناً من فيه نحو: ليلُهُ نائم. والبلد معروف، وفي تسميته قولان:

أحدهما: أنه مأخوذ من البلد.

والبلْد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت، أي: صدرها، والبلد صدر القرى، فسمي بذلك.

والثاني: أن البلد في الأصل الأثر، ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه.

وقيل لبركة البعير: " بَلْدَة " لتأثيرها في الأرض إذا برك، قال الشاعر[الطويل]
783ـ أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ     قَلِيلٌ بِهَا الأًصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُها
إنما قال في هذه السورة " بَلَداً آمناً " على التنكير.

وقال في سورة إبراهيم:هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم:35] على التعريف لوجهين:

الأول: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال:رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [إبراهيم:37].

فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً.

الثاني: أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً، فقوله: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً ءَامِناً } تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حارًّا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة، فقوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة، والله أعلم.

فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم

قيل: المراد من الآية دعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمؤمنين من سكّان " مكة " بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى " مكة " فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله ـ عز وجلّ ـ كما فعل بأصحاب الفيل.

فصل في الرد على بعض الشُّبهات

فإن قيل: أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير، وخرب الكَعْبة، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟

فالجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6