والمقصود منه أنَّه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يعظم حزنك وأسفك؛ بسبب كفرهم، فإنَّا بعثناك منذراً ومبشّراً، فأما تحصيلُ الإيمان في قلوبهم، فلا قدرة لك عليه، والغرض منه تسلية الرَّسُول صلى الله عليه وسلم. ومعنى: " بَاخعٌ نَفْسكَ " أي: قاتلٌ نفسك. قال الليثُ: بخع الرَّجلُ نفسه إذا قتلها غيظاً من شدَّة وجده، والفاء في قوله: (فَلعلَّكَ) قيل: جواب الشرط، وهو قوله: { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } قدم عليه، ومعناه التأخير. وقال الجمهور: جواب الشرط محذوف لدلالة قوله: " فَلعلَّكَ ". و " لَعلَّكَ " قيل: للإشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأيُ الكوفيِّين. وقيل: للنَّهي، أي: لا تَبْخَعْ. والبَخْعُ: الإهلاك، يقال: بَخَع الرجل نفسه يَبخَعُهَا بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وجداً. قال ذو الرمة: [الطويل]
3483- ألا أيُّهذا البَاخِعُ الوجْدُ نفسهُ
لِشيءٍ نَحَتْهُ عَن يَديْهِ المَقادِرُ
يريد: نحَّته بالتشديد، فخفف، قال الأصمعي: كان ينشده: " الوَجْدَ " بالنصب على المفعول له، وأبو عبيدة رواه بالرَّفع على الفاعلية بـ " البَاخِع ". وقيل: البَخْعُ: أن تضعفَ الأرض بالزِّراعةِ، قاله الكسائي، وقيل: هو جهدُ الأرضِ وعلى هذا معنى " بَاخعٌ نَفْسكَ " أي ناهكها وجاهدها؛ حتَّى تهلكها، وقيل: هو جهد الأرض في حديث عائشة - رضي الله عنها - عن عمر: " بَخَعَ الأرض " تعني جهدها؛ حتَّى أخذ ما فيها من أموالِ ملوكها، وهذا استعارة، ولم يفسِّره الزمخشري هنا بغير القتل والإهلاك، وقال في سورة الشعراء: " البَخْع ": أن يبلغَ بالذَّبْح البِخَاع بالباء وهو عرقٌ مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدِّ الذابح. قال شهاب الدين: وسمعت شيخنا علاء الدين القونيَّ يقول: " تَتبَّعتُ كُتبَ الطبِّ والتشريح، فلم أجد لهذا أصلاً ". فصل يحتمل أنه لما ذكروه، سمَّوه باسم آخر؛ لكونه أشهر فميا بينهم. وقال الرَّاغب: " البَخْعُ: قتلُ النفس غمًّا " ثم قال: " وبَخعَ فلانٌ بالطاعة، وبما عليه من الحق: إذا أقرَّ به، وأذعن مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مجرى بخعِ نفسه في شدَّته ". قوله: " عَلى آثَارِهمْ " متعلقٌ بـ " بَاخِعٌ " أي: من بعد هلاكهم. يقال: مات فلانٌ على أثر فلانٍ، أي بعده، وأصل هذا أنَّ الإنسان، إذا مات، بقيت علاماتهُ، وآثارهُ بعد موته مدَّة، ثمَّ إنَّها تنمحي وتبطل بالكليَّة، فإذا كان موته قريباً من [موت] الأول، كان موته حاصلاً حال بقاءِ آثار الأول، فصحَّ أن يقال: مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ. قوله: { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } يعني القرآن. قال القاضي: وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديثٌ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول: إنه قديمٌ.