الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } * { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً }

لمَّا تكلَّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيَّة، تكلَّم في هذه الآية في تقرير النبوَّة، وفيها قولان:

الأول: أنَّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه - عليه السلام - كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيٍّ يصفقون، ويصفِّرون، ويخلطون عليه بالأشعار.

" وروى سعيد بن جبير عن أسماء رضي الله عنها قالت: كَانَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، ومعه أبُو بكرٍ - رضي الله عنه -، فنزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [المسد: 1] فجاءت امرأة أبي لهبٍ، ومعها حجرٌ، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: [الرجز] "
3425   - مُذمَّماً أبَيْنَا
ودِينَهُ قَلَيْنَا   
وأَمْرَهُ عَصَيْنَا   
" ولم تَرهُ فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه - يا رسول الله معها حجرٌ، أخشى عليك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقالت لأبي بكرٍ: قد علمت أنِّي ابنة سيِّد قريش، وأنَّ صاحبك هجاني، فقال ابو بكرٍ - رضي الله عنه -: والله، ما ينطق بالشِّعر، ولا يقوله، فرجعت، وهي تقول: قد كنتُ جئت بهذا الحجر؛ لأرضخ رأسه. فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: ما رأتك يا رسول الله؟ قال: لا، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني ".

وروى ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم، كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه، فقال النَّضر يوماً: ما أدري ما يقول محمدٌ، غير أنِّي أرى شَفَتيْهِ تتحركان بشيءٍ، فقال أبو سفيان: إنِّي أرى بعض ما يقوله حقًّا.

وقال أبو جهلٍ: هو مجنونٌ.

وقال أبو لهبٍ: كاهنٌ، وقال حويطب بن عبدِ العزَّى: هو شاعرٌ، فنزلت هذه الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آياتٍ، وهي قوله في سورة الكهفوَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [الأنعام: 25].

وفي النحل:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [النحل: 108].

وفي الجاثية:أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } الآية [الجاثية: 23].

فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات، عن عيون المشركين، فكانوا يمرُّون به، ولا يرونه.

قوله تعالى: { مَّسْتُوراً } أنَّ الله تعالى يخلق حجاباً في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيء لا يرى، فكان مستوراً من هذا الوجه.

واحتجُّوا بهذه الآية على أنَّه يجوز أن تكون الحاسَّة سليمة، ويكون المرئيُّ حاضراً، مع أنَّه لا يراه الإنسان؛ لنَّ الله تعالى يخلق في عينه مانعاً يمنعه عن رؤيته، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضراً، وكانت حواس الكفَّار سليمة، ثمَّ إنهم كانوا لا يرونه، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً، ولا معنى للحجاب المستور إلاَّ ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيته.

السابقالتالي
2 3