الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً }

لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزالِ التوراة، وبأنه جعل التوراة هدًى لهم، بيَّن أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد، فقال: { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ } والقضاء في اللغة عبارةٌ عن وضع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله:فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ } [فصلت: 12].

وقول الشاعر: [الكامل]
3375- وعَليْهِمَا مَسْرُودَتانِ قَضاهُمَا   ......................
ويكون أمراً؛ كقوله تعالى:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 23].

ويكون حكماً؛ كقوله:إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } [يونس: 93] ويكون خلقاً؛ كقوله: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ومعناه [في] الآية: أعْلَمنَاهُم، وأخْبرنَاهُم فيما آتَيْناهُم مِنَ الكُتبِ أنه سَيُفسِدُونَ.

وقال ابن عباس وقتادة: " وقَضَيْنَا عليهم ".

و " إلى " بمعنى " على " والمراد بالكتاب اللَّوح المحفوظ.

و " قَضَى " يتعدَّى بنفسه:فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [الأحزاب: 37]فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } [القصص: 29]، وإنما تعدَّى هنا بـ " إلى " لتضمُّنه معنى: أنْفَذْنَا وأوْحَينَا، أي: وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتومِ. ومتعلق القضاء محذوفٌ، أي: بفسادهم.

وقوله " لتُفْسِدُنَّ " جواب قسمٍ محذوف تقديره: والله لتُفسدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتينِ وهذا القسم مؤكدٌ لمتعلق القضاء.

ويجوز أن يكون " لتُفْسِدُنَّ " جواباً لقوله: " وقَضيْنَا " ، لأنه ضمِّن معنى القسم، ومنه قولهم: " قضَاءُ الله لأفعلنَّ " فيجرُون القضاء والنَّذرَ مجرى القسمِ، فيُتلقَّيان بما يُتَلقَّى به القسمُ.

والعامة على توحيد " الكِتابِ " مراداً به الجنس، وابن جبيرٍ وأبو العالية " في الكُتُب " جمعاً، جَاءُوا به نصًّا في الجمع.

وقرأ العامة بضمِّ التاء وكسر السِّين مضارع " أفْسَدَ " ، ومفعوله محذوف تقديره: لتُفْسِدنَّ الأديان، ويجوز ألا يقدَّر مفعولٌ، أي: لتُوْقعُنَّ الفساد.

وقرأ ابن عبَّاس ونصرُ بن عليٍّ وجابر بن زيد " لتُفْسَدُنَّ " ببنائه للمفعولِ، أي: ليُفْسِدنَّكُمْ غَيرُكم: إمَّا من الإضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التَّاء وضمِّ السين، أي: فَسدتُمْ بأنفسكم.

قوله: " مرَّتينِ " منصوب على المصدر، والعامل فيه " لتُفْسِدُنَّ " لأن التقدير: مرتين من الفساد.

وقوله: " عُلُوًّا " العامة على ضمِّ العين واللام مصدر علا يعلو، وقرأ زيد بن عليٍّ " عِلياً " بكسرهما والياء، والأصل الواو، وإنما أعِلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعولاً المصدر، الأكثر فيه التصحيح؛ نحو: عَتَا عُتُواً، والإعلال قليلٌ؛ نحوأَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } [مريم: 69] على أحد الوجهين؛ كما سيأتي، وإن كان جمعاً، فالكثير الإعلال، نحو: " جِثِيًّا " وشذَّ: بَهْوٌ وبُهُوٌّ، ونَجْوٌ ونُجُوٌّ، وقاسه الفراء.

فصل

معنى { وَقَضَيْنَآ }: أوحينا { إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ } ، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة.

{ فِي ٱلأَرْضِ } يعني أرض الشَّام وبيت المقدس.

{ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } أي: يكون استعلاؤكم على النَّاس بغير الحقِّ استعلاءاً عظيماً؛ لأنَّه يقال لكلِّ متكبِّر متجبِّر: قد علا وتعظَّم.