الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }

فقوله جلَّ ذكره: { إِلاَّ بِٱلحَقِّ } أي: إلا بسبب الحقِّ، فيتعلق بـ " لا تَقْتلُوا " ويجوز أن يكون حالاً من فاعل " لا تَقْتلُوا " أو من مفعوله، أي: لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقِّ أو إلاَّ ملتبسة بالحقِّ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلاَّ قتلاً ملتبساً بالحقِّ.

فصل

والحقُّ المبيح للقتل هو قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: " لا يحلُّ دمُ امرىء مسلم إلاَّ بإحدى ثلاثٍ: رجُلٌ كفر باللهِ بعد إيمانه، أو زنى بعد أحصانهِ، أو قَتلَ نفْساً بِغيْرِ نَفْسٍ ".

فإن قيل: إنَّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنَّهي عن الزنا، ثم نهى بعده عن القتل.

فالجواب: أنَّا بيَّنا أنَّ فتح باب الزِّنا يمنعُ دخول الإنسان في الوجود، والقتل يدلُّ على إعدامه، ودخوله في الوجود مقدَّم على إعدامه بعد وجوده؛ فلهذا ذكر الزِّنا أولاً، ثم ذكر بعده القتل.

واعلم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، والحلُّ إنما ثبت بسببٍ عارضٍ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل، وهو عند حصول الأسباب العرضيَّة، فقال: { إِلاَّ بِٱلحَقِّ } ويدل على أنَّ الأصل في القتل التحريم وجوهٌ:

أحدها: أن القتل ضررٌ، والأصل في المضارِّ الحرمة، قال - صلوات الله وسلم عليه -: " لا ضَررَ، ولا ضِرارَ ".

وثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: " الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ ".

وثالثها: أن الآدميَّ خلق للعبادة، لقوله تعالى:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] والعبادة لا تتمُّ إلاَّ بعدم القتل.

ورابعها: أنَّ القتل إفساد، فحرم؛ لقوله تعالى:وَلاَ تُفْسِدُواْ } [الأعراف: 56].

وخامسها: إذا تعارض دليل تحريم القتل، ودليل إباحته، فالإجماع على أنَّ جانب الحرمة راجح، ولولا أنَّ مقتضى الأصل هو التحريمُ، وإلاَّ لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجحٍ، وهو محالٌ.

وإذا علم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، فقوله: " ولا تَقْتلُوا " نهيٌ وتحريمٌ. وقوله: " حَرَّمَ الله " إعادة لذكر التحريم على سبيل التاكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيَّة، فقال: إلاَّ بالحقِّ، وها هنا طريقان:

الطريق الأول: أن قوله " إلاَّ بالحقِّ " مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقَّ ما هو، ثم قال تعالى: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } أي: في حقِّ استيفاء القصاص؛ فوجب أن يكون المراد من الحقِّ هذه الصورة فقط، فتكون الآية نصًّا صريحاً في تحريم القتل، إلا بهذا السبب الواحد.

الطريق الثاني: أن نقول: دلَّت السنة على أنَّ ذلك الحقَّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدَّمة في الخبر.

السابقالتالي
2 3 4