الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } * { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }

قوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية.

لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق.

واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين، فقال تعالىوَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67].

فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف، فقال تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } أي لا تمسك عن الإنفاق، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم، أي: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط، { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } أي: ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ.

والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ، وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراطٌ في الإمساك، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ، وهما مذمومان، والمعتدل الوسطُ.

روى جابرٌ - رضي الله عنه - قال: " أتى صبي فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ دِرْعاً، ولم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قميصهُ، فقال للصبيِّ: من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر، فعاد إلى أمِّه فقالت: قل له: إنَّ أمِّي تَسْتكِسيكَ الدِّرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دَارهُ، ونزعَ قَمِيصهُ، فأعطاهُ، فقعد عُرياناً، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ، فانتظره، فلم يخرج، فشغل قُلوبَ أصحابه، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً " ، فأنزلَ الله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده، ولا يقدر على مدِّها، " ولا تَبْسُطهَا " بالعطاء " كُلَّ البَسْطِ " فتعطي جميع ما عندك.

و { كُلَّ ٱلْبَسْطِ }: نصب على المصدر؛ لإضافتها إليه، و " فَتقْعُدَ " نصب على جواب النهي وتقدَّم الكلام عليه، و " مَلُوماً " إمَّا حالٌ، وإمَّا خبر كما تقدَّم؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم، وأمَّا كونه محسوراً، فقال الفراء: العرب تقول للبعير: محسورٌ، إذا انقطع سيره، وحسرت الدابَّة، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى:يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 4].

وقال قتادة - رحمه الله -: محسوراً نادماً على ما فرط منك ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى، مثل: قَتْلَى وصَرْعَى.

قال الشاعر: [الطويل]
3410- بِهَا جِيَفُ الحَسْرى، فأمَّا عِظَامُهَا   فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ
وحسر عن كذا، كشف عنه كقوله [الطويل]
3411-.......... يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً   ...................
والمحسور: المنقطع السَّير، ومنه حسرت الدَّابة، قطعت سيرها، وحسير أي: كالٌّ: تعبان بمعنى: محسور.

قال القفال: شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً، ومن فعل هذا، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره، وترك الحزم في مهمَّات معاشه.

السابقالتالي
2