الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }

قرأ العامَّةُ " أمَرْنَا " بالقصر والتخفيف، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضدُّ النهي، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا لأمر، فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخرين: أنه أمرناهم بالطاعة، ففسقوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ ردًّا شديداً، وأنكره إنكاراً بليغاً في كلام طويل، حاصله: أنه حذف ما لا دليل عليه، وقدَّر هو متعلق الأمر: الفسق، أي: أمرناهم بالفسق، قال: " أي: أمرناهم بالفسق، فعملوا، لأنه يقال: أمَرْتهُ، فقام، وأمرته، فقرأ، وهذا لا يفهم منه إلا أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءة، فكذا هاهنا، لمَّا قال: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا }. وجب أن يكون المعنى: أمرناهم بالفسق، ففسقوا، ولا يقال: هذا يشكل بقوله: أمرتهُ فعصَانِي، أو فَخالفَنِي؛ فإنَّ هذا لا يفهم منه إلاَّ أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ، فكذا هاهنا، كما قال: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيهَا }. وجب أن يكون المعنى: أمرناهُمْ بالفسق، ففسقُوا، ولا يقال: هذا يُشكل بقوله: أمرتُهُ فعصاني، أو فخالفني؛ فإنَّ هذا لا يُفهم منه أنِّي أمرتُهُ بالمعصية، والمخالفةِ؛ لأنَّ المعصية مُخَالفةٌ للأمْرِ، ومُناقِضَةٌ له، فيكونُ كونها مأموراً بها محالاً.

فلهذا الضرورة تركنا هذا الظَّاهر، وقلنا: الأمر مجازٌ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجازِ: أنه صبَّ عليهم النعمة صبًّا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، واتِّباع الشَّهوات، فكأنَّهم مأمورون بذلك؛ لتسبُّبِ إيلاءِ النِّعمةِ فيه، وإنما خوَّلهم فيها ليشكروا ".

ثم قال: " فإن قلت: فهلاَّ زعمت أنَّ معناه: أمرناهم بالطَّاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائزٍ، فكيف حذف ما الدليل قائمٌ على نقيضه؟ وذلك أنَّ المأمور به، إنَّما حذف لأنَّ " فَفَسقُوا " يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ؛ يقال: " أمَرْتُه، فقَامَ " و " أمَرتهُ فَقَرأ " لا يفهم منه إلاَّ أن المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ، ولو ذهبت تقدِّر غيره، رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم [على] هذا قولهم: أمَرتهُ، فعصَانِي " أو " فَلمْ يَمْتثِلْ " لأنَّ ذلك منافٍ للأمر مناقضٌ له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً؛ حتّى يجعل دالاًّ على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويٍّ، ولا مراد؛ لأن من يتكلَّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأموراً به؛ فكأنَّه يقول: كان منِّي أمر، فكان منه طاعة، كما أنَّ من يقول: " فلانٌ يأمر وينهى، ويعطي ويمنع " لا يقصد مفعولاً.

فإن قلت: هلاَّ كان ثبوت العلم بأنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ دليلاً على أن المراد: أمرناهم بالخيرِ؟.

السابقالتالي
2 3 4 5