الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } * { قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ }

قوله: { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه، والتقدير: فرجعوا إلى أبيهم، وذكروا له ما قال كبيرهم، فقال يعقوب: ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة، { بل سولت }: زيَّنَتْ { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي حمل أخيكم إلى مصر، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف.

وقيل: { سولت لكم أنفسكم } أنَّه سرق، ما سرق.

{ فصبر جميل } وتقدَّم الكلام على نظيره، وقال هناك: { والله المستعان على ما تصفون } وقال ههنا { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً }.

قال بعضهم: يعنى يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر.

وإنَّما حكم بهذا الحكم؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى.

وقيل: لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي، أو ظهرت له علامات على ذلك.

ثم قال: { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } العليم بحقائقِِ الأمْرِ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل، والإحسان.

وقيل: العليم بحزني، ووجدي على فقدهم، الحكيم في تدبير خلقه.

قوله تعالى: { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } الآية.

لما سمع يعقوب كلام بنيه، ضاق قلبه، وهاج حزنهُ على يوسف، فأعرض عنهم: { وقال يا أسفى على يوسف } يا حزنا على يوسف.

والأسفُ: أشدُّ الحُزْنِ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:

الأول: أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع، قال متمّم بن نويرة: [الطويل]
3133ـ فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ     لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكِ
فقُلْتُ لَهُ: إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى    فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك، فلاموهُ؛ فأجاب: إنَّ الأسى يبعث الأسى.

الثاني: أنَّ ينيامين، ويوسف كانا من أمٍّ واحدة، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة، فكان يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع، زال ما يوجبُ السَّلوة، فعظم الألم.

الثالث: أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ.

الرابع: أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ، فلم يبحث عنها وأمَّا واقعة يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه، وأما السَّببُ الحقيقي، فلم يعلمه.

وأيضاً: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يعلم حياة هؤلاء، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي، أو ميت، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته.

قوله: { يٰأَسَفَا } الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وإنَّما قلبت ألفاً؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم، ونداؤه على سبيل المجازِ، كأنَّه قال: هذا أوانُك فاحضر، نحو: " يَا حَسْرَتَا ".

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7