الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

قوله: { رَبِّ ٱلسِّجْنُ } العامة على كسر الباء؛ لأنه مضافٌ لياءِ المتكلم، اجتزىء عنها بالكسرة، وهي الفصحى، و " السِّجنُ ": بكسر السين، ورفع النُّون، على أنَّه مبتدأ، والخبر: " أحَبُّ " و " السِّجنُ " الحبسُن والمعنى: دخول السِّجنِ.

وقرأ بعضهم: " ربُّ السِّجنُ " بضمِّ الباءِ، وجرِّ النون، على أنَّ " ربُّ " مبتدأٌ و " السِّجن " خفض بالإضافة، و " أَحبُّ ": خبره، والمعنى: ملاقاةُ صاحب السجن، ومقاساته أحبُّ إليَّ.

وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهريُّ، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: بفتح السِّين، وفي الباقي كالعامَّة.

والسِّجنُ: مصدرٌ، أي: الحبسُ أحبُّ [إليَّ]، و " إليَّ " متعلقٌ بـ " أحَبُّ " ، وقد تقدم [يوسف:8]: أنَّ الفاعل هنا يجرُّ بـ " إلى " والمفعول باللام.

وفي الحقيقة: ليست هنا " أفْعَلَ " على بابها من التفضيل؛ لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قطٌّ، وإنَّما هذان شرَّان، فآثر أحد الشَّرينِ على الآخر.

فصل

الظَّاهر أنَّ النسوة لما سمعن هذا التهديد، قلن له: لا مصحلة لك في مخالفة أمرها، وإلاَّ وقعت في السِّجنِ وفي الصَّغار، فعند ذلك اجتمع في حقِّ يوسف، أنواع الترغيب في الموافقة:

أحدها: أنَّ " زُلَيْخَا " كانت في غاية الحسن.

والثاني: أنها كانت على عزم أن تبذُل الكُّلَّ ليوسف، إن طاوعها.

الثالث: أن النسوة اجتمعن عليه، وكلُّ واحدةٍ منهن كانت ترغبه، وتخوفه بطريقٍ غير طريقِ الأخرى، ومكرُ النساءِ في هذا الكتاب شديدٌ.

الرابع: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان خائفاً من شرِّها، ومن إقدامها على قتله، وإهلاكه.

فاجتمع في حقِّه جميع جهات الترغيب؛ على موافقتها، وجميع جهات التَّخويف؛ على مخالفتها، فخاف صلى الله عليه وسلم أن تؤثر هذه الأسبابُ الكثيرة فيه، والقوة البشريَّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية؛ فعند ذلك التجأ إلى الله ـ تعالى ـ وقال: { رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } وقدَّم محبته ـ السِّجن وإن كانت معصية؛ لأنها أخفُّ، وذلك أنه متى لزم ارتكابُ أحد قسمين، كلِّ واحدٍ منهما يضرُّ، فارتكابُ أقلِّ الضررين أولى؛ والأولى بالمرءِ أن يسأل الله العافية.

فإن قيل: كيف قال: " يَدْعُوننِي إليْهِ " وإنما دعتْه زُلَيْخَا خاصَّة؟.

فالجواب: أضافهُ إليهنَّ؛ خُروجاً من التصريح إلى التَّعريض، وأراد الجنس، وقيل إنهن جميعاً دعونه إلى أنفُسهِنَّ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مُطَاوعتِهَا.

فصل

{ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } قرأ العامة بتخفيف الباء، من: صَبَا يَصْبُو، أي: رقَّ شوقُه، والصَّبْوة: الميلُ إلى الهوى، ومنه " الصَّبَا "؛ لأن النُّفوسَ تصبُّو إليها، أي: تميِلُ إلى نسيمها ورَوْحِهَا، يقال: صَبَا يَصْبُو صَبَاءً وصُبُوًّا، وصَبِيَ يُصبْي صَباً، والصِّبَا بالكسرة: اللَّهْو، واللَّعب.

السابقالتالي
2