الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً.

{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ } مبتدأ، و " كَٱلأَعْمَىٰ " خبره، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر، فتقدَّر بـ " مثل " ، تقديره: مثلُ الفريقين مثل الأعمى.

ويجوزُ أن تكون " مَثَلُ " بمعنى " صفة " ، ومعنى الكافِ معنى " مِثْل " ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى.

وقوله: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ } يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَرِ، والصَّمَم بالسَّمْع، وهو من الطِّباق، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه، وحينئذٍ يكون قوله: { كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ } وقوله: { وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } من بابِ عطف الصفات؛ كقوله: [المتقارب]
2958- إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ   وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو من اللفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ، على أن تكون الواو في " والأصَمِّ " وفي " والسَّمِيع " لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله: [السريع]
2959-....................... الصْـ   ـصَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ
يريد بقوله: " اللَّف " أنه لفَّ المؤمنين، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله: " الفريقين " ولو فسَّرهما لقال: مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان: لفظتان متقابلتان، اللَّفُّ والنشرُ، أشار لقول امرىء القيس: [الطويل]
2960- كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً   لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
أصلُ الكلامِ: كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ: العُنَّابُ، واليابس منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير، ليس هذا موضعه.

وأشار بقوله: " الصَّابح فالغانم " إلى قوله: [السريع]
2961- يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْـ   ـصَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ
وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة.

فإن قيل: لِمَ قدَّم تشبيه الكافر على المؤمن؟

فالجوابُ: لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار، فلذلك قدَّم تمثيلهم.

فإن قيل: ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير، والأصم والسَّميع، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهر بذلك التَّضادُّ؟.

فالجوابُ: بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر محسوس، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ.

قوله: مَثَلاً " تمييز، وهو منقولٌ من الفاعليَّة، والأصلُ: هل يستوي مثلهما، كقوله تعالىوَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [مريم:4] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنَّه على معنى " مِنْ " لا على معنى " في ".

ثم قال: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.