الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } * { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } * { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } * { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ }

قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } الآية.

لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب، فقال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ }. وقيل: المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ }؛ ولأنه موافق لقوله تعالى:إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [العصر:2، 3]إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [المعارج:19] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز.

قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية: يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله، فأنت كفورٌ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط.

وقيل: المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة.

وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً، وهو تصريح بالكفر، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله: { ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } وذلك جراءة على الله تعالى، ووصفه بكونه فرحاًإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [القصص:76] وصفه بكونه فخوراً، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين. وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع. واعلم أنَّ لفظ " الإذَاقة والذَّوق " يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط، قال تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } سلبناها منه { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } في الشِّدة كفور بالنعمة.

{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ } قال الوَاحديُّ: النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو: حمراء وسوداء، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء، والمضرة والضَّراء.

والمعنى: إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه: " ليقُولنَّ ذهبَ السيِّئاتَ عنِّي " زالت الشَّدائدُ عنِّي، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر، والفرح: لذَّة في القلب بنيل المشتهى. والفخرُ: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه.

فصل

اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال، والتحوُّل والانتقال، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس.

فأمَّا الأوَّلُ: فهو المراد بقوله عز وجل: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [هود:9] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يستبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6