الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلْحَيٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

قوله تعالى: { إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } الآية.

لمَّا ذكر الدَّلائل القاهرة على إثبات الإلهيَّة، وعلى صحَّة القول بالمعاد، والحَشْرِ، والنَّشْرِ، شرح بعده أحوال من يكفُر بها، ومن يؤمن بها؛ فأما شرح أحوال الكُفَّار، فهو المذكور في هذه الآية، وصفهم فيها بأربع صفاتٍ:

الأولى: قوله: { إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا }.

قال ابن عبَّاس، ومقاتل، والكلبي: معناه: لا يخافون البعث؛ لأنَّهم لا يؤمنون به، والرَّجاء: الخوف؛ لقوله:إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [النازعات:45]، وقوله:وَهُمْ مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:49]، وقوله:مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [نوح:13]؛ وقال الهذليُّ: [الطويل]
2878- إذَا لسَعَتْهُ النَّحْلُ لمْ يَرْجُ لسْعَهَا   وخَالفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وقال الزَّجَّاج: الطَّمع؛ والمعنى: لا يطمعُون في ثوابنا، واعلم أنَّ اللِّقاء: هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حقِّ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه مُنَزَّهٌ عن الحدِّ؛ فوجب أن يكون مجازاً عن الرُّؤية؛ فإنه يقال: لقيتُ فُلاناً، إذَا رأيْتَهُ.

الصفة الثانية: قوله: { وَرَضُواْ بِٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } ، وهذه إشارة إلى استغراقهم في طلب اللَّذاتِ الجسمانيَّة.

والصفة الثالثة: قوله: " وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا " يجوز أن يكون عطفاً على الصِّلة، وهو الظاهرُ، وأن تكون الواو للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وهذه صفةُ الأشقياء، وهي أن تحصل لهم الطُّمأنينة في حُبِّ الدُّنْيا والاشتغال بلذَّاتها، فيزول عن قُلُوبهم الوجلُ، فإذا سمعُوا الإنذارَ والتَّخويفَ لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله - تعالى -، وهذا بخلاف صفة السُّعداء، فإنَّهم يحصُلُ لهم الوجل عند ذكر الله - تعالى -، كما قال:إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنفال:2]، ثُمَّ إذا قويت هذه الحالةُ اطمأنُّوا بذكر الله، كما قال:وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28].

ومقتضى اللُّغة أن يقال: واطمأنُّوا إليها، إلاَّ أنَّ حروف الجرِّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض.

الصفة الرابعة: قوله: { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ }. يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعُون بين عدم رجاء لقاءِ الله وبين الغفلة عن الآياتِ، والمراد بالغفلة الإعراض، وأن يكون هذا الموصولُ غير الأولِ، فيكون عطفاً على اسم " إنَّ " ، أي: إنَّ الذين لا يَرْجُون، وإنَّ الذين هُمْ.

و " أولئك " مبتدأ، و " مَأواهُمُ " مبتدأ ثانٍ، و " النَّار " خبر هذا المبتدأ الثاني، والثاني وخبره خبر " أولئك " ، و " أولئك " وخبره خبر " إنَّ الذينَ " ، و " بِمَا كَانُوا " متعلِّقٌ بما تضمَّنتهُ الجملةُ من قوله: " مَأواهُمُ النَّارُ " والباءُ سببيَّةٌ، و " ما " مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرار ذلك في كلِّ زمان. وقال أبو البقاء: " إن الباء تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: جُوزُوا بما كانُوا ".