الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } * { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } * { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله سبحانه: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ... } ، هذه مخاطبةٌ لجميع المؤمنين يعدِّد الله تعالى نِعَمَهُ عليهم، والمواطِنُ المُشَارُ إلَيْها بَدْرٌ والخَنْدَق والنَّضير وقُرَيْظة وخَيْبَر وغيرها، وحُنَيْنٌ وادٍ بين مكَّة والطائِف.

وقوله: { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، رُوِيَ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ رَأَى جملته ٱثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً: «لَنْ تُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ»، وروي أَنَّ رجلاً من أصحابه قالها فأَراد الله تعالَىٰ إظهار العجز؛ فظهر حين فَرَّ الناسُ.

* ت *: ٱلعجْبُ جائزٌ في حقِّ غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو معصومٌ منه صلى الله عليه وسلم، والصوابُ في فَهْمِ الحديث، أَنه خَرَجَ مَخْرَجَ الإِخبار، لا علَىٰ وجه العُجْب؛ وعلى هذا فَهِمُه ابنُ رُشْدٍ وغيره، وأَنه إِذا بلغَ عَدَدُ المسلمين اثني عشر ألفاً حُرِمَ الفِرَارُ، وإن زاد عددُ المُشْرِكين على الضِّعْف؛ وعليه عَوَّلَ في الفتوىٰ، وقوله تعالى: { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } ، معناه: بِرُحْبها؛ كأنه قال: عَلَى ما هي عليه في نَفْسها رَحْبةً واسعةً، لشدَّة الحال وَصُعوبتها؛ فـــ «مَاء»: مصدرية.

وقوله سبحانه: { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ، أي: فراراً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وٱختصارُ هذه القصَّة: أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فتَحَ مكَّة، وكان في عَشَرة ألفاً منْ أصحابه، وٱنضَافَ إِليهم ألفانِ من الطُّلَقَاءِ، فصار في ٱثْنَيْ عَشَرَ أَلافٍ، سمع بذلك كفَّار العرب، فشَقَّ عليهمِ، فجمعتْ له هوازنُ وألفافها، وعليهم مَالِكُ بن عوفٍ النصريُّ، وثقيفٌ، وعليهم عبْد يَالِيلَ بْنُ عَمْرُو وٱنضافَ إِليهم أَخلاطٌ مِنَ الناس حتى كانوا ثلاثينَ أَلْفاً، فخرج إِليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين ٱجتمعوا بحُنَيْنٍ، فلما تصافَّ الناسُ، حمل المشركون من مَحَانِي الوادِي، وٱنهزم المُسْلِمون، قال قتادة: وكان يقال: إِن الطلقاء مِنْ أَهْل مكَّةَ فرُّوا، وقصدوا إِلقَاءَ الهَزيمة في المُسْلمين، وكان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بغلته البَيْضَاء قد اكَتَنَفَهُ العَبَّاس عمُّه، وابنُ عَمِّه أبو سفيانَ بْنُ الحارثِ بنِ عبد المُطَّلبِ، وبَيْنَ يدَيْهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وثَمَّ قتل رحمه اللَّه والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ
أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ   أَنا ٱبْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
فلما رأَى نبيُّ صلى الله عليه وسلم شدَّةَ الحالِ، نَزَلَ عن بَغْلَتِهِ إِلى الأرض؛ قاله البَرَاءُ بنُ عازب، واستنصر اللَّه عَزَّ وجلَّ، فأَخَذَ قبضةً مِنْ ترابٍ وحصًى، فرمَى بها في وُجُوه الكُفَّار، وقال: « شَاهَت الوُجُوه»، ونادَى رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالأنصارِ، وأمَرَ العبَّاسَ أنْ ينادِيَ: « أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ سُورَةِ البَقَرةِ؟ » فَرَجَعَ النّاسُ عَنَقاً واحداً للحَرْبِ، وتصافحوا بالسُّيوفِ والطَّعْنِ والضرب، وهناك قال عليه السلام: « الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ» وهزم اللَّهُ المشركين، وأَعْلَى كلمةَ الإِسلام إِلى يَوْمِ الدينِ، قال يَعْلَى بن عطاءٍ: فحدَّثني أبناءُ المنهزمين عَنْ آبائهم، قالوا: لم يَبْقَ منَّا أحَدٌ إِلا دخَلَ عينيه مِنْ ذلك التُّرَابِ واستيعابُ هذه القصة في كتب «السِّيَر».

السابقالتالي
2