الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } * { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله سبحانه: { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ... } الآية، هذه الآية صيغتُها صيغةُ أمْرٍ مضمَّنها الوعيدُ.

وقال الطبري: المراد بها الذين ٱعتذروا من المتخلِّفين وتابوا.

قال * ع *: والظاهر أن المراد بها الذين اعتَذَروا، ولم يتوبوا وهم المتوعَّدون، وهم الذين في ضمير { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } ، ومعنى: { فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } ، أي: موجوداً معرَّضاً للجزاء عليه بخَيْرٍ أو بِشَرٍّ.

وقال ابنُ العرَبِيِّ في «أحكامه»: قوله سبحانه: { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } هذه الآية نزلَتْ بعد ذكر المؤمنين، ومعناها: الأمر، أي: ٱعملوا بما يُرْضِي اللَّه سبحانه، وأمَّا الآية المتقدِّمة، وهي قوله تعالى:قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [التوبة:94]؛ فإنها نزلت بعد ذكْر المنافقين، ومعناها: التهديد؛ وذلك لأن النفاق موضِعُ ترهيبٍ، والإيمانُ موضعُ ترغيبٍ، فقوبل أهْلُ كلِّ محلٍّ من الخطاب بما يليقُ بهم. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ }: عَطْفٌ على قوله أولاً: { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ }: ومعنى الإِرجاء: التأخير، والمراد بهذه الآية فيما قال ابنُ عباس وجماعةٌ: الثلاثةُ الذين خُلِّفوا، وهم كَعْبُ بْنُ مالكٍ، وصاحباه؛ على ما سيأتي إن شاء اللَّه، وقيل: إِنما نَزلَتْ في غيرهم من المنافقين الذين كانوا مُعَرَّضين للتوبة مع بنائهم مَسْجِدَ الضِّرارِ، وعَلَى هذا: يكون { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } بإسقاط واو العطف بدلاً من { آخَرُونَ } ، أو خبر مبتدأ، تقديره: هم الذين، وقرأ عاصم وعوامُّ القُرَّاء، والنَّاسُ في كل قُطْرٍ إلاَّ بـــ «المدينة»: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } ، وقرأ أهلُ المدينة، نافع وغيرُهُ الَّذِينَ ٱتَّخَذُوا - بإسقاط الواو؛ على أنه مبتدأ، والخبر: { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ } وأما الجماعة المرادة بـــ { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا } ، فهم منافقو بني غَنْم بن عَوْف، وبني سَالمِ بنِ عَوْف، وأسند الطبريُّ، عن ٱبنِ إِسحاق، " عن الزُّهْرِيِّ وغيره، أنه قال: أَقْبَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تَبُوكَ، حتى نَزَلَ بذي أَوَانَ - بلدٌ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهار - وكان أصحابُ مسجِدِ الضِّرَارِ، قد أَتَوهُ صلى الله عليه وسلم وهو يتجهَّز إِلى تبوكِ، فقالوا: يا رسُولَ اللَّهِ؛ إنا قد بَنَيْنَا مسَجِداً؛ لِذِي العِلَّة والحاجة واللَّيْلَة المَطِيرة، وإِنا نُحِبُّ أَن تأتينا فتصلِّي لنا فيه، فقال: « إِنِّي عَلَىٰ جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ »، فَلَمَّا قَفَلَ، وَنَزَلَ بِذِي أوَان، نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ في شَأْنِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُنِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ، أو أخاهُ عاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، فَقالَ: « ٱنْطَلِقَا إِلَى هَذَا المَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فَٱهْدِمَاهُ، وَحَرِّقَاهُ » " فَٱنْطَلَقَا مُسْرِعَيْنِ فَفَعَلاَ وَحَرَقَاهُ، وذكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث لِهَدْمِهِ وتحريقه عَمَّار بن ياسر وَوَحْشِيًّا مَوْلَى المُطْعم بن عَدِيِّ، وكان بَانُوهُ ٱثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، منهم ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، ومُعْتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، ونَبْتَلُ بْنُ الحَارِثِ وغيرهم، وروي أنه لما بنى صلى الله عليه وسلم مَسْجداً في بني عمرو بن عوف وقْتَ الهِجْرَة، وهو مَسْجِدُ «قُبَاءٍ» وتشرَّفَ القومُ بذلك، حَسَدَهم حينئذٍ رجالٌ من بني عَمِّهم من بني غَنْم بْنِ عَوْفٍ، وبني سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وكان فيهم نفاقٌ، وكان موضعُ مَسْجِدِ «قُبَاءٍ» مربطاً لحمارِ ٱمرأةٍ من الأنصار، ٱسْمُها: لَيَّةُ، فكان المنافقُونَ يقولُونَ: واللَّه لا نَصْبِرُ على الصَّلاة في مَرْبَطِ حمارِ لَيَّةَ، ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامرٍ المعروفُ بِالرَّاهِبِ منهم، وهو أبو حنظلة غسيلِ الملائكةِ، وكان سيِّداً من نظراء عبدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ٱبْنِ سَلُولَ، فلما جاء اللَّهُ بالإِسلام، نافق، ولم يَزَلْ مجاهراً بذلك، فسمَّاه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الفاسِق، ثم خرج في جماعة من المنافقينَ، فَحَزَّبَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردَّهم اللَّه بغَيْظهم، أقام أبو عامر بـــ «مكة» مظهراً لعداوته، فلما فتح اللَّه «مكة»، هَرَبَ إِلى «الطائف»، فلما أسلم أهْلُ الطائف، خرج هارباً إِلى الشام، يريد قَيْصَرَ مستنصراً به عَلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى المنافقين من قومه أَن ٱبْنُوا مسجداً، مقاومةً لمسجد «قُبَاء»، وتحقيراً له، فإِني سآتي بِجَيْشٍ من الرومِ، أُخْرِجُ به محمَّداً، وأصحابه من «المدينة»، فبَنُوهُ وقالوا: سيأتي أبو عامرٍ ويصلي فيه، فذلك قوله: { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعني: أبا عامر، وَقَوْلَهُمْ: سيأتي أبو عامر، وقوله: { ضِرَارًا } أي: داعيةً للتضارُرِ من جماعتين.

السابقالتالي
2 3