الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } * { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله سبحانه: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }؛ وذلك يجمع الموارثَةَ والمعاوَنَةَ والنُّصْرة، وهذه العبارةُ تحريضٌ وإِقامةٌ لنفوس المؤمنين؛ كما تقولُ لمن تريدُ تحريضَهُ: عَدُوُّكَ مُجْتَهِدٌ أي: فٱجتهدْ أَنْتَ، وحكى الطبريُّ في تفسير هذه الآية، عن قتادة؛ أنه قال: أبَى اللَّهُ أَن يقبل إِيمانَ مَنْ آمن ولم يُهَاجرْ، وذلك في صَدْر الإِسلام، وفيهم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ المُشْرِكِينَ لاَ تَتَرَاءَى نَارُهُمَا " الحديثَ على اختلاف ألفاظه، وقول قتادة، إِنما هو فيمن كان يُقيمُ متربِّصاً يقول: مَنْ غَلَبَ، كُنْتُ معه؛ وكذلِكَ ذُكِرَ في كتاب «الطَّبريِّ»، وغيره، والضميرُ في قوله: { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } ، قيل: هو عائدٌ على المُؤازرة والمعاونة، ويحتملُ على الميثاق المذكور، ويحتملُ على النَّصْر للمسلمين المستَنْصِرِينَ، ويحتمل على الموارثَة وٱلتزامَها، ويجوز أَن يعود مجملاً على جميعِ ما ذُكِرَ، والفتْنَةُ: المِحْنَة بالحَرْب وما ٱنْجَرَّ معها؛ من الغارَاتِ، والجلاءِ، والأسر، والفسادُ الكَبيرُ: ظُهُورُ الشِّرْك.

وقوله سبحانه: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } ، تضمَّنت الآيةُ تخصيصَ المهاجرين والأنصار، وتشريفَهم بهذا الوَصْف العظيمِ.

* ت *: وهي مع ذلك عند التأمُّل يلوح منها تأويل قتادَةَ المتقدِّم، فتأمَّله، والرزْقُ الكريمُ: هو طعام الجنَّة؛ كذا ذكر الطبريُّ وغيره.

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»: وإِذا كان الإِيمان في القَلْب حقًّا، ظهر ذلك في ٱستقامة الأعمال؛ بٱمتثال الأمر وٱجتنابِ المَنْهِيِّ عنه، وإِذا كان مجازاً، قَصَّرت الجوارحُ في الأعمال؛ إذ لم تبلغ قوَّتُهُ إليها. انتهى.

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ مَعَكُمْ }: قوله: «من بعد»، يريدُ به مِنْ بَعْدِ الحُدَيْبِيَةِ؛ وذلك أن الهجرة مِنْ بعدِ ذلك كانَتْ أقلَّ رتبةً من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهِجْرَةُ الثانية، { وَجَـٰهَدُواْ مَعَكُمْ }: لفظٌ يقتضي أنهم تَبَعٌ لا صَدْرٌ.

وقوله سبحانه: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } ، قالَ مَنْ تقدَّم ذكره: هذه في المواريثِ، وهي ناسخةٌ للحُكْم المتقدِّم ذكْرُهُ.

وقالتْ فرقة، منها مالك: إن الآية لَيْسَتْ في المواريث، وهذا فَرارٌ من توريثِ الخَالِ والعَمَّة ونحو ذلك.

وقالَتْ فرقة: هي في المواريث، إِلا أنها نُسِخَتْ بآية المواريث المبيّنة، وقوله: { فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ }: معناه: القرآن، أي: ذلك مُثْبَتٌ في كتاب اللَّه.

وقيل: في اللَّوْحِ المحفوظِ.

كَمَلَ تفسيرُ السُّورة، والحَمْدُ للَّهِ، وصلَّى اللَّه علَى سيِّدنا محمَّد وآله وَصَحْبِهِ وسَلَّم تسليماً.