الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقوله سبحانه: { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَٰـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } ، القول فيه: أن ذلك كلَّه من عند اللَّه: الهدايةُ منه وبخَلْقه وٱختراعِهِ؛ وكذلك الإِضلال، وفي الآيةِ تعجيبٌ مِنْ حال المذْكُورين.

وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } ، هذا خبرٌ من اللَّه تعالى أنه خَلَق لسُكْنَىٰ جهنم وٱلاحتراقِ فيها كثير، وفي ضِمْنه وعيدٌ للكفَّار، «وذرأ»: معناه: خَلَق وأوْجَدَ، مع بَثٍّ ونَشْرٍ.

وقوله سبحانه: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰـئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ... } الآيةَ: لما كانَتْ هذه الطائفةُ الكافرةُ المُعْرِضَةُ عن النَّظَر في آيات اللَّه، لم ينفعْهم النظَرُ بالقَلْب، ولا بالعَيْن، ولا ما سَمِعُوه من الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصْفَ بأنهم لا يفقهون، ولا يُبْصرون، ولا يَسْمعون، والفِقْه: الفَهْم، { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ } في أنَّ الأنعام لا تَفْقَهُ الأشياء، ولا تعقلُ المقاييسِ، ثم حَكَم سبحانه عَلَيْهم بأنهم أضَلُّ؛ لأن الأنعام تلك هِيَ بِنْيَتُها وخِلْقَتُها، وهؤلاءِ مُعَدُّونَ للفَهْم والنظر، ثم بَيَّنَ سبحانه بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ } الطريق الذي به صاروا أضَلَّ من الأنعام، وهو الغَفْلة والتقصير.

قال الفَخْر: أمَّا قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ، فتقريره: أن الإِنسان وسائر الحيوانات مُتشَاركةٌ في قُوَى الطَّبيعة؛ الغَاذِيَةِ، والنامية، والمُوَلِّدةِ، ومتشاركَةٌ أيضاً في منافع الحواسِّ الخَمْسِ؛ الباطنةِ والظاهرةِ، وفي أحوالِ التخيُّل، والتفكُّر، والتذكُّر، وإِنما حَصَل ٱلامتياز بيْنَ الإِنسان، وسائِرِ الحيواناتِ؛ في القوَّة العقليَّة والفكْريَّة التي تهديه إِلى معرفة الحقِّ، فلما أعرضَ الكُفَّار عن أحْوالِ العَقْلِ والفكْرِ، ومعرفةِ الحقِّ، كانوا كالأنعام، بل هم أضلُّ؛ لأن الحيواناتِ لا قدرةَ لها على تحْصيلِ هذهِ الفضائل، وقد قال حَكِيمُ الشُّعَراء: [البسيط]
الرُّوحُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ العَرْشِ مَبْدَؤُه   وَتُرْبَةُ الأَرْضِ أَصْلُ الجِسْمِ والبَدَنِ
قَدْ أَلَّفَ المَلِكُ الجَبَّارُ بَيْنَهُمَا   لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الأَمْرِ والْمِحَنِ
فَالرُّوحُ فِي غُرْبةٍ وَالجِسْمُ في وَطَن   فَلْتَعْرِفَنَّ ذِمَامَ النَّازِحِ الوَطنِ
انتهى.

وقوله سبحانه: { وَللَّهِ ٱلأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا... } الآية: السببُ في هذه الآية عَلَىٰ ما روي، أن أبَا جهلٍ سمع بعْضَ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقرأ، فيذكُر اللَّه تعالَى في قراءته، وَمَرَّةَ يَذْكُر الرحْمٰن، ونَحْوَ ذلك، فقال: محمَّدٌ يَزعم أنَّ إِلإلٰه واحِدٌ، وهو إِنما يعبدُ آلهةً كثيرةً، فنزلَتْ هذه الآية، ومِنْ أسماء اللَّه تعالَىٰ ما ورد في القُرآن، ومنها ما ورد في الحديث وتواتَرَ، وهذا هو الذي ينبغي أَنْ يُعْتَمدَ عليه.

وقوله سبحانه: { وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَـٰئِهِ } ، قال ابن زيد: معناه: ٱتركُوهم، فالآية علَىٰ هذا منسوخةٌ، وقيل: معناه: الوعيدُ؛ كقوله سبحانه:ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } [المدثر:11] وذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [الحجر:3] يقال: أَلْحَد وَلَحَدَ بمعنى جَارَ، ومَالَ، وٱنْحَرَفَ، و«ألْحَدَ»: أشهرُ؛ ومنه لَحْدُ القَبْرِ، ومعنى الإِلحاد في أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ: أنْ يسمُّوا اللاَّتَ نظيرَ ٱسْمِ اللَّه تعالَىٰ؛ قاله ابن عباس، والعُزَّى نظيرَ العزيزِ؛ قاله مجاهد، ويسمُّون اللَّه أباً، ويسمُّون أوثانهم أرْباباً.

وقوله سبحانه: { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }: وعيدٌ محضٌ.