الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } * { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

وقوله سبحانه: { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً... } الآية: { ٱكْتُبْ }: معناه: أَثْبتْ وَٱقْضِ، والكَتْب: مستعملٌ في كلِّ ما يخلَّد، و { حَسَنَةً }: لفظ عامٌّ في كل ما يحسن في الدنيا من عاقبة وطاعة للَّه سبحانه، وغَيْرِ ذلك، وحَسَنَةُ الآخرةِ: الجَنَّة، لا حَسَنَةَ دونها، ولا مَرْمَىٰ وراءها، و { هُدْنَـا } - بضم الهاء -: معناه: تُبْنَا.

وقوله سبحانه: { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ } ، يحتمل أن يريد بـــ «العذاب» الرجفةَ التي نزلَتْ بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتملُ؛ وهو الأظهر: أن الكلام قصد به الخَبَرُ عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته؛ كما يشاء سبحانه، ويندرجُ في عمومِ العذابِ أصحابُ الرجفة، وقرأ الحسنُ بنُ أبي الحسن، وطَاوُسٌ، وعَمْرُو بن فائدٍ: «مَنْ أَسَاءَ» من الإِساءة، ولا تعلُّق فيه للمعتزلة، وأطنب القُرَّاء في التحفُّظ من هذه القراءَةِ، وَحَمَلَهُمْ على ذلك شُحُّهم على الدِّين.

وقوله سبحانه: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ، قال بعض العلماء: هو عمومٌ في الرحمة، وخصوصٌ في قوله: { كُلَّ شَيْءٍ } ، والمراد: مَنْ قد سبق في عِلْم اللَّه أن يرحمهم، وقوله سبحانه: { فَسَأَكْتُبُهَا } ، أي: أقدِّرها وأقضيها.

وقال نَوْفٌ البِكَالِيُّ: إِن موسَىٰ عليه السلام قال: يا رَبِّ، جعلْتَ وِفَادَتِي لأمَّة محمَّد عليه السلام، وقوله: { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ }: الظاهر: أنها الزكاةُ المختصَّة بالمالِ، وروي عن ابن عباس؛ أن المعنى: يؤتون الأعمالَ التي يزكُّون بها أنفسهم.

وقوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلأُمِّيَّ... } الآية: هذه ألفاظٌ أخرجَت اليهودَ والنصَارَىٰ مِنَ ٱلاشتراك الذي يظهر في قوله: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ، وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره. قلْتُ: وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى، وأقرَّ برسَالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف؛ بحَسَب تفاوتهم في حقيقة ٱلاتباعية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «الإِحياء»: وإِنما أُمَّتُه صلى الله عليه وسلم مَنِ ٱتبعه، وما ٱتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا، وأَقْبَلَ على الآخرةِ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا، وتُقْبِلُ على الآخرة، تَسْلُكُ سبيله الذي سَلَكَهُ صلى الله عليه وسلم، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله، فقد اتبعته، وبقَدْر ما اتبعتَهُ، صِرْتَ من أمته، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا، عَدَلْتَ عن سبيله، ورغبْتَ عَنْ متابعته، وٱلتحقْتَ بالذين قال اللَّه تعالَىٰ فيهم:فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا * فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات:37،38،39]. انتهى، فإن أردتَّ ٱتباعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، وٱقتفَاءَ أثره، فٱبْحَثْ عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير.

السابقالتالي
2 3