الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } * { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }

وقوله سبحانه: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ... } الآية: قال ابنُ عبَّاس: هذه الآيةُ نزلَتْ في بني إسرائيل، قال النَّقَّاش: وهي آية مدنية، وقيل: المراد رجُلٌ مخصوص منهم، يقال له مالكُ بْنُ الضيْفِ؛ قاله ابن جُبَيْر، وقيل: فنْحَاص؛ قاله السُّدِّيُّ، و { قَدَرُواْ }: هو من توفيَةِ القَدْرِ والمنزلةِ، وتعليلُه بقولهم: { مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ }: يقضي بأنهم جَهِلُوا، ولم يعرفوا اللَّه حقَّ معرفتِهِ؛ إذ أحالوا عليه بعثةَ الرُّسُل، قال الفَخْر: قال ابن عباس: { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، أيْ: ما عظَّموا اللَّه حقَّ تعظيمه، وقال الأخفشُ: ما عَرَفُوه حقَّ معرفته، وقال أبو العالية: ما وصفوه حقَّ قُدْرته وعَظَمته، وهذه المعانِي كلُّها صحيحةٌ. انتهى، وروي أنَّ مالك بن الصَّيْفِ كان سَمِيناً، فجاء يخاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بزعمه، فقال له رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " أَنْشُدُكَ اللَّه، أَلَسْتَ تَقْرَأُ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ مُوسَىٰ: إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحِبْرَ السَّمِينَ " ، فَغَضِبَ، وقال: «واللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ»، قال الفَخْر: وهذه الآية تدلُّ علَىٰ أن النكرة في سياقِ النفْي تعمُّ، ولو لم تفد العمومَ، لما كان قوله تعالى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِي جَاء بِهِ مُوسَىٰ نُوراً } ـــ إبطالاً لقولهم ونقْضاً عليهم. انتهى.

وقوله تعالى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ } ، يعني: التوراةَ، و { قَرٰطِيسَ }: جمع قِرْطَاس، أي: بطائق وأوراقاً، وتوبيخهم بالإبداء والإِخفاء هو علَىٰ إخفائهم أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم وجَميعَ ما عليهم فيه حُجَّة.

وقوله سبحانه: { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ } ، يحتمل وجهين:

أحدهما: أنْ يقصد به الامتنانَ عليهم، وعلَىٰ آبائهم.

والوجه الثاني: أنْ يكون المقصود ذمَّهم، أي: وعلِّمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه، فما ٱنتفعتُمْ به؛ لإعراضكم وضلالكم.

ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلَىٰ موضع الحُجَّة، أي: قل اللَّه هو الذي أنْزَلَ الكتابَ علَىٰ موسَىٰ، ثم أمره سبحانَهُ بتَرْك مَنْ كَفَر، وأعرض، وهذه آية منسوخةٌ بآية القتالِ؛ إن تُؤُوِّلَتْ موادعةً، ويحتمل ألاَّ يدخلها نسْخٌ إذا جُعِلَتْ تتضمَّن تهديداً ووعيداً مجرَّداً من موادعة.

وقوله سبحانه: { وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ }: «هذا»: إشارة إلى القرآن، وقوله: { مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ، يعني: التوراةَ والإنجيل؛ لأن ما تقدَّم، فهو بيْنَ يدَيْ ما تأَخَّر، و { أُمَّ ٱلْقُرَىٰ }: مكَّة، ثم ابتدأ تباركَ وتعالَىٰ بمَدْحِ قومٍ وصفهم، وأخبر عنهم؛ أنهم يؤمنون بالآخرةِ والبَعْثِ والنشورِ، ويؤمنون بالقُرآن، ويصدِّقون بحقيقتِهِ، ثم قَوَّىٰ عزَّ وجلَّ مدحهم بأنهم يحافظون على صَلاَتهم التي هي قاعدةُ العباداتِ، وأمُّ الطاعاتِ، وإذا ٱنضافَتِ الصلاةُ إلَىٰ ضميرٍ، لم تكتب إلا بالألِفِ، ولا تكتبُ في المُصْحَف بواوٍ إلا إذا لم تُضَفْ إلى ضمير.

وقد جاءت آثار صحيحةٌ في ثواب مَنْ حافظ على صلاته، وفي فَضْل المشْيِ إليها؛ ففي «سنن أبي داود»، عن بُرَيْدة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

السابقالتالي
2