الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } * { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } * { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }

وقوله سبحانه: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ } ، يعني به: النَّوْمَ، و { يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم } ، أي: مَا كَسَبْتم بالنَّهار، ويحتمل أنْ يكون { جَرَحْتُم } هنا من الجرح؛ كأن الذنْبَ جرح في الدِّين، والعربُ تقولُ:
....................   وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ اليَدِ
و { يَبْعَثُكُمْ }: يريد به الإيقاظَ، والضميرُ في { فِيهِ } عائدٌ على النهار؛ قاله مجاهد وغيره، ويحتملُ أنْ يعود الضمير على التوفِّي، أي: يوقظُكُم في التوفِّي، أي: في خلالِهِ وتضاعِيفِهِ؛ قاله عبد اللَّه بن كَثير.

و { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى }: المراد به آجالُ بني آدمَ، { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ }؛ يريدُ: بالبَعْثِ والنشورِ، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } ، أي: يُعْلِمُكُمْ إعلامَ توقيفٍ، ومحاسبةٍ، ففي هذه الآية إيضاحُ الآياتِ المنصوبةِ للنَّظَر، وفيها ضَرْبُ مثالٍ للبعْثِ من القبور؛ لأن هذا أيضاً إماتةٌ وبعْثٌ علَىٰ نَحوٍ مَّا.

وقوله سبحانه: { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }: القاهرُ إنْ أُخِذَ صِفَةَ فِعْلٍ، أي: مظهر القَهْر بالصواعقِ والرياحِ والعذابِ، فيصحُّ أنْ تجعل { فَوْقَ } ظرفيةً للجهةِ؛ لأن هذه الأشياء إنما تعاهَدَها العبادُ مِنْ فوقهم، وإنْ أُخِذَ { ٱلْقَاهِرُ } صفَةَ ذَاتٍ، بمعنى القُدْرة والاستيلاءِ، فـ { فَوْقَ }: لا يجوزُ أنْ تكون للجهةِ، وإنما هي لعلُوِّ القَدْر والشِّأن؛ على حد ما تقولُ: اليَاقُوتُ فَوْقَ الحَدِيدِ، والأحرارُ فَوْقَ العبيدِ، و { يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ }: معناه: يَبُثُّهم فيكم، وَ { حَفَظَةً }: جمع حَافِظٍ، والمراد بذلكَ الملائكةُ الموكَّلون بكَتْبِ الأعمال، ورُوِيَ أنهم الملائكةُ الَّذين قالَ فيهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " يَتَعاقَبُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ " ؛ وقال السُّدِّيُّ وقتادة، وقال بعْض المفسِّرين: حَفَظَةً يَحفظُونَ الإنسانَ مِنْ كلِّ شيءٍ؛ حتى يأتي أجله، والأول أظهر.

وقرأ حمزةُ وحْده: «تَوَفَّاهُ».

وقوله تعالى: { رُسُلُنَا }: يريد به؛ علَىٰ ما ذكر ابنُ عباس، وجميعُ أهل التأويل: ملائكةً مقترنينَ بمَلَكِ المَوْت، يعاونونه ويَأْتَمِرُونَ له، { ثُمَّ رُدُّواْ } ، أي: العبادُ، { إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ } ، وقوله: { ٱلْحَقِّ }: نعْتٌ لـ { مَوْلَـٰهُمُ } ، ومعناه: الذي لَيْسَ بباطلٍ، ولا مَجَاز، { أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ }: كلامٌ مضمَّنه التنبيهُ، وهَزُّ النفوسِ، { وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَـٰسِبِينَ }: قيل لِعَليٍّ (رضي اللَّه عنه): كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟! قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

وقوله تعالى: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً... } الآية: هذا تَمَادٍ في توبيخِ العادِلِينَ باللَّه الأوثانَ، وتركِهِمْ عبادَةَ الرَّحْمَنِ الذي يُنْجِي من الهَلَكَاتِ، ويُلْجَأُ إلَيْه في الشَّدَائد، ودَفْعِ الملمَّاتِ، و { ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ }: يريدُ بها شدائِدَهُما، فهو لفظٌ عامٌّ يستغرقُ ما كان مِنَ الشدائدِ؛ بظلمةٍ حقيقيةٍ، وما كان بغَيْر ظلمةٍ، والعَرَبُ تقول: عَامٌ أَسْوَدُ، ويَوْمٌ مُظْلِمٌ، ويَوْمٌ ذو كواكِبَ، يريدُونَ به الشِّدَّة، قال قتادة وغيره: المعنَىٰ: مِنْ كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ، وتَدْعُونَهُ: في موضعِ الحالِ، والتَّضَرُّعُ: صفَةٌ باديةٌ على الإنسانِ، وخُفْيَة: معناه: الاختفاء، وقرأ عاصمٌ في رواية أبي بَكْر: «وخِفْيةَ» ـــ بكسر الخاء ـــ، وقرأ الأعمشُ: «وخِيفَةً»؛ من الخَوْف.

وقوله سبحانه: { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا... } الآية: سبق في المُجَادَلة إلى الجَوَابِ؛ إذْ لا محيدَ عنْه، { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ }: لفظٌ عامٌّ أيضاً، ليتَّضِحَ العُمُومُ الذي في «الظلماتِ»، { ثُمَّ أَنتُمْ } ، أي: ثم بَعْدَ معرفتكم بهذا كلِّه، وتحَقُّقِكُمْ له، أنْتُمْ تُشْرِكُونَ.