الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } * { ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

وقوله تعالَىٰ: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }.

الفِتْنَةُ في كلام العرب لفظة مشتركة، تقال بمعنى حُبِّ الشيء، والإعجاب به، وتقال بمعنى الاخْتِبَارِ. ومن قال: إن أَصْلَ الفتنة الاخْتِبَارُ من: فَتَنْتُ الذَّهَبَ في النَّارِ، ثم يُسْتَعَارُ بعد ذلك في غَيْرِ ذلك، فقد أَخْطَأَ؛ لأن الاسْمَ لا يُحْكَمُ عليه بمعنى الاسْتِعَارَةِ حتى يقطع عليه باسْتِحَالَةِ حَقِيقَتِهِ في المَوْضِع الذي استعير له، كقول ذي الرّمّةِ: [الطويل]
وَلَفَّ الثُّرَيَّا فِي مُلاَءَتِهِ الفَجْرُ   
ونحوه، والفتنة لا يَسْتَحِيلُ أن تكون حَقِيقَةً في كل مَوْضِعٍ قيلت عليه، وباقي الآية مضى تَفْسِيرُهُ عند قوله سُبْحَانَهُ:وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء:42] فانظره هناك.

قال * ع *: وعبر قَتَادَةُ عن الفِتْنَةِ هنا بأن قال: معذرتهم.

وقال الضَّحَّاك: كلامهم.

وقيل غير هذا مما هو في ضِمْنِ ما ذكرناه.

وقوله سبحانه: { ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } هذا خِطَابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والنظر نَظَرُ القَلْبِ، وقال: { كَذَّبُواْ } في أَمْرِ لم يَقَعْ؛ إذ هي حِكَايَةٌ عن يوم القيامة، فلا إشْكَالَ في اسْتِعْمَالِ المَاضِي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تَحْقِيقاً في الفعل، وإثْبَاتاً له، وهذا مَهْيَعٌ في اللُّغَةَ.

{ وَضَلَّ عَنْهُم } معناه: ذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ في الدنيا، وكَذِبُهُمْ على اللَّه.

وقوله سبحانه: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } الآية.

«أكِنَّة» جمع: كنان، وهو الغِطَاءُ { أَن يَفْقَهُوهُ } أي: يفهموه، والوَقْرُ الثقل.

وقوله سبحانه: { وإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا }. الرؤية هنا رُؤْيَةُ العَيْنِ، يريد كانشقاق القَمَرِ وشبهه.

وقولهم: { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } إشارة إلى القرآن، والأَسَاطِيرُ جمع أَسْطَار، كأقوال وأقاويل، وأسطار جمع سَطْر أوْ سَطَر. وقيل: أَسَاطِير جمع إسْطَارَة، وهي التُّرَّهَاتُ.

وقيل: جمع أُسْطُورة كَأُعْجُوبة، وأُضْحُوكة. وقيل: هم اسم جَمْعٍ، لا واحد له من لَفْظِهِ كعَبَادِيدَ وشَمَاطِيطَ، والمعنى: إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تُسَطَّرُ، وتُحْكَىٰ، ولا تُحَقَّقُ كالتواريخ، وإنما شَبَّهَهَا الكفار بأحاديث النَّضْرِ بن الحَارِثِ، وعبد اللَّه بن أبي أُمَيَّة، عن رستم ونحوه، ومُجَادَلَة الكفار كانت مُرَادّتهم نُورَ اللَّهِ بأقوالهم المُبْطَلَةِ.

{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال قتادة وغيره: المعنى: يَنْهَوْنَ عن القرآن.

وقال ابن عباس وغيره: يَنْهَوْنَ عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: ينهون غَيْرَهُمْ، ويبعدون هم بأنفسهم، والنَّأْيُ البُعْدُ.

قال * ص *: { وَإِن يُهْلِكُونَ }: إن نافية بمعنى «ما»، و { أَنفُسِهِمْ } مفعول بـ { يُهْلِكُونَ } انتهى. { وَمَا يَشْعُرُونَ } معناه: ما يَعْلَمُونَ عِلْمَ حسٍّ، ونَفْيُ الشعور مذمَّةٌ بالغة؛ إذ البهائم تشعر وتحسّ، فإذا قلت: فلان لا يَشْعُرُ، فقد نَفَيْتَ عنه العِلْمَ النفي العام الذي يقتضي أنه لا يَعْلَمُ ولا المَحْسُوسات.