الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } * { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله سبحانه: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي... } الآية: أمْر من اللَّه عز وجل لنبيِّه ـــ عليه السلام ـــ أنْ يعلن بأنَّ مقصده في صلاته، وطاعتِهِ من ذبيحة وغيرها، وتصرفَهُ مدَّةَ حياتِهِ، وحالهُ من إخلاصٍ وإيمانٍ عند مماته ـــ إنما هو للَّه عزَّ وجلَّ، وإرادةِ وجهه، وطَلَبِ رضاه، وفي إعلان النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزمُ المؤمنين التأسِّي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قَصْدَ وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة؛ أنَّ صلاته ونسكه وحياته ومماته بِيَدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، واللَّه يصرفه في جميع ذلك كَيْفَ شاء سبحانه، ويكون قوله: { وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ }؛ على هذا التأويل ـــ راجعاً إلى قوله: { لاَ شَرِيكَ لَهُ } فقطْ، أو راجعاً إلى القول؛ وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذُكِرَ من صلاة وغيرها، وقالتْ فرقة: النُّسُكُ؛ في هذه الآية: الذبائح.

قال * ع *: ويُحَسِّن تخصيصَ الذبيحة بالذِّكْر في هذه الآية؛ أنها نازلةٌ قد تقدَّم ذكرها، والجَدَل فيها في السُّورة، وقالتْ فرقة: النسك؛ في هذه الآية: جميع أعمال الطاعاتِ؛ مِنْ قولك: نَسَكَ فُلاَنٌ، فَهُوَ نَاسِكٌ؛ إذا تعبَّد، وقرأ السبعة سوى نافع: «وَمَحْيَايَ» ـــ بفتح الياء ـــ، وقرأ نافع وحده: «وَمَحْيَايْ» ـــ بسكون الياء ـــ، قال أبو حَيَّان: وفيه جمع بين ساكنَيْنِ، وسوَّغ ذلك ما في الألفِ من المَدِّ القائمِ مَقَام الحركَة. انتهى، وقوله: «وأنا أول المسلمين»، أي: من هذه الأمة.

وقوله سبحانه: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ... } الآية: حكى النَّقَّاش أنه روي أنَّ الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ٱرْجِعْ يا محمَّد إلَىٰ ديننا، وٱعبد آلهتنا، وٱتْرُكْ ما أنت عليه، ونحن نتكفَّل لك بكلِّ تباعة تتوقَّعها في دُنْيَاك وآخرتك، فنزلَتْ هذه الآية، وهي ٱستفهامٌ يقتضي التوبيخَ لهم، و { أَبْغِي }: معناه أَطْلُبْ؛ فكأنه قال: أفَيَحْسُنُ عندكم أن أَطْلُبَ إلهاً غير اللَّه الذي هو رَبُّ كلِّ شيء، وما ذكَرْتُم من كَفَالَتِكُمْ باطلٌ ليس الأمرُ كما تظُنُّون، فلا تَكْسِبُ كلُّ نفس من الشَّرِّ والإثم إلا عليها وحْدها، { وَلاَ تَزِرُ } ، أي: تحملُ { وٰزِرَةٌ } ، أي: حاملةٌ حمل أخرَىٰ وثقلها، و «الوِزْر»: أصله الثقل، ثم ٱستعمل في الإثم؛ تجوُّزاً وٱستعارةً، { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ }: تهديد ووعيد، وقوله: { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، أي: في أمري في قول بعضكم: هو سَاحِرٌ، وبعضكم: هو شاعرٌ، إلى غير ذلك؛ قاله بعض المتأوِّلين، وهذا التأويلُ يَحْسُنُ في هذا الموضع، وإن كان اللفظ يعمُّ جميع أنواع الاختلافاتِ بَيْن الأديان والمِلَلِ والمَذَاهِب وغَيْرِ ذلك، و { خَلَـٰئِفَ }: جمع خَلِيفَةِ، أي: يخلف بعضُكم بعضاً؛ لأن مَنْ أتَىٰ خليفةٌ لِمَنْ مَضَىٰ، وهذا يتصوَّر في جميع الأممِ وسائرِ أصنافِ الناسِ، ولكنه يحْسُنُ في أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائِف للأمم، وليس لهم من يخلفهم؛ إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقومُ الساعة، وروى الحَسَنُ بْنُ أبي الحسن؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:

السابقالتالي
2