وقوله سبحانه: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ... } الآية: هذا خبر مِنَ اللَّهِ سبحانه يتضمَّن تكذيبَ اليَهُودِ في قولهم: «إن اللَّه لم يحرِّم علينا شيئاً، وإنما حرمنا علَىٰ أنفسنا ما حَرَّمه إسرائيل على نفسه»، و { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ }: يراد به الإبلُ، والنَّعَام، والإوَزُّ ونحوه من الحيوانِ الذي هو غير مُنْفَرِجِ الأصابع، وله ظُفُر، وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريمِ الشحومِ عليهم، وهي الثُّرُوب وشَحْمُ الكُلَىٰ، ومَا كان شحماً خالصاً خارجاً عن الاستثناء الذي في الآية، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم، فعن مالكٍ: كراهيةُ شحومهم من غير تحريمٍ. وقوله تعالى: { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } ، يريد: ما ٱختلط باللحْمِ في الظَّهْرِ والأجنابِ ونحوه، قال السُّدِّيُّ وأبو صالح: الأَلْيَاتُ ممَّا حملَتْ ظهورهما، والحَوَايَا: ما تَحوَّىٰ في البَطْن، وٱستدارَ، وهي المَصَارِينُ والحُشْوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره: هي المَبَاعِر، وقوله: { أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } ، يريد: في سائر الشخْصِ. وقوله سبحانه: { ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِبَغْيِهِمْ } يقتضي أنَّ هذا التحريم إنما كان عقوبةً لهم علَىٰ بغيهم، وٱستعصائهم علَىٰ أنبيائهم. وقوله سبحانه: { وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ }: إخبار يتضمَّن التعريضَ بكَذِبهم في قولهم: ما حرَّم اللَّهُ علينا شيئاً. وقوله سبحانه: { فَإِن كَذَّبُوكَ }: أي: فيما أخبرْتَ به؛ أنَّ اللَّه حرَّمه عليهم، { فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰسِعَةٍ } أي في إمهاله؛ إذ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ، مع شدَّة جُرْمِكم، ولكنْ لا تغترُّوا بسعة رحمته؛ فإن له بَأْساً لا يُرَدُّ عن القوم المجْرِمِين، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانَسَها من آياتِ مكَّة مرتفعٌ حكْمُها بآية القتالِ، ثم أخبر سبحانه نبيَّه ـــ عليه السلام ـــ؛ بأن المشركين سيحتجُّون؛ لتصويبِ ما هُمْ عليه من شركهم وتديُّنهم: بتحريمِ تلك الأشياءِ بإمهال اللَّه تعالَىٰ لهم، وتقريرِهِ حالهم، وأنه لو شاء غَيْرَ ذلك، لما تَرَكَهم على تلْك الحال، ولا حُجَّة لهم فيما ذكَروه؛ لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم على الاكتساب، ويلزمهم على ٱحتجاجهم أنْ تكون كلُّ طريقةٍ وكلُّ نحلةٍ صواباً، إذْ كلها لو شاء اللَّه لَمْ تكُنْ، وفي الكلامِ حذفٌ يدلُّ عليه تناسُقُ الكلامِ؛ كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حُجَّة لهم، ولا شَيْء يقتضي تكذيبَكَ، ولكن، { كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }؛ بنحو هذه الشبهة مِنْ ظَنِّهم أنَّ ترك اللَّه لهم دليلٌ علَىٰ رضاه بحالهم، وفي قوله تعالى: { حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا }: وعيدٌ بيِّن. وقوله سبحانه: { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ }. أي: مِنْ قِبَلِ اللَّه، { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ } ، يريد البالغةَ غاية المَقْصِدِ في الأمر الذي يحتجُّ له، ثم أعلم سبحانه أنَّه لو شاء، لهدَى العالَم بأسْره، و { هَلُمَّ }: معناها: هَاتِ؛ وهي حينئذ متعدِّية، وقد تكون بمعنى: «أَقْبِلْ»؛ فلا تتعدَّىٰ، وبعضُ العرب يجعلها ٱسْمَ فعْلٍ؛ كـ «رُوَيْدَكَ»، وبعضهم يجعلها فِعْلاً، ومعنى الآية: قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن اللَّه حرَّم ما زعمتم تحريمَهُ، { فَإِن شَهِدُواْ } ، أي: فإن ٱفترَىٰ لهم أحدٌ أو زَوَّرَ شهادةً أو خبراً عن نبوَّة ونَحوَ ذلك، فجَنِّبْ أنْتَ ذلك، ولا تَشْهد معهم، قلْتُ: وهذه الآية والتي بعدها مِنْ نوعَ ما تقدَّم من أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره ممَّن يمكن ذلك منه، { وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ } ، أي: يجعلون لَهُ أنداداً يسوُّونهم به، تعالَى اللَّه عن قولهم.