الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } * { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } * { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

وقوله سبحانه: { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ... } الآية: { مَنْ }: شَرْطٌ، و { يَشْرَحْ } جوابُ الشرط.

والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدى المؤمن، وضلالَ الكافر، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالَىٰ، والهُدَىٰ هنا: هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ، وشَرْحُ الصدرِ: هو تسهيلُ الإيمان، وتحبيبُه، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ، والصَّدْر: عبارةٌ عن القلب، وفي { يَشْرَحْ } ضمير يعود على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنَىٰ، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، والقولُ بأنه عائدٌ على «المَهْدِيِّ» ـــ قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ، والحَذَرُ منه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم " أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ، ٱنْشَرَحَ لَهُ الصَّدْرُ، وٱنْفَسَحَ، قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ عَلاَمَةٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الإنَابَةُ إلَىٰ دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، قَبْلَ المَوْتِ " ، والقول في قوله: { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } كالقول في قوله: { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ } ، وقرأ حمزة وغيره: «حَرَجاً» ـــ بفتح الراء ـــ، وروي أن عمر بن الخطاب (رضي اللَّه عنه) قرأها يوماً بفتح الراء، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء، فقال: ٱبْغُونِي رجُلاً من كِنَانَةَ، وليكنْ رَاعياً، وليكُنْ من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يَا فَتَىٰ، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ؟ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة، قال عمر: كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير.

وقوله سبحانه: { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَاءِ } ، أي: كأنَّ هذا الضَّيِّقَ الصَّدْرِ متَىٰ حاول الإيمان أو فكَّر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذُ باللَّه، كصعوبةِ الصُّعود في السماء، قاله ابن جُرَيْج وغيره، و { فِي ٱلسَّمَاءِ } ، يريد: مِنْ سفل إلى علوٍ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود؛ كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء، ويَصْعَدُ: معناه: يعلو، ويَصَّعَّدُ: معناه: يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه.

وقوله: { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ } ، أي: وكما كان الهدَىٰ كله من اللَّه، والضلال بإرادته تعالَىٰ ومشيئته؛ كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ، قال أهل اللغة: الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ، ويأتي بمعنى النَّجَس.

وقوله تعالى: { وَهَـٰذَا صِرٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرْعِ الذي جاء به نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس، و { فَصَّلْنَا } ، معناه: بيَّنا وأوضحنا.

وقوله سبحانه: { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ } عائد عليهم، والسَّلام: يتجه أن يكون ٱسماً من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، ويتجه أن يكون مصدراً بمعنى السلامة.

السابقالتالي
2