الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } * { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله سبحانه: { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } الآية تَسْلِيَةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بالأُسْوَةِ في الرسل، وتقوية لنفسه على مُحَاجَّةِ المشركين، وإخبار يَتَضَمَّنُ وعيد مُكَذِّبِيهِ، والمستهزئين به.

و { حاق } معناه: نزل، وأحاط، وهي مَخْصُوصَةٌ في الشر؛ يقال: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقاً.

وقوله سبحانه: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } حَضٌّ على الاعتبار بآثارَ مَنْ مضى ممن فَعَلَ مِثْلَ فعلهم.

وقوله سبحانه: { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُل لِلَّهِ }.

قال بعض أَهْلِ التَّأوِيلِ: تَقْدِيرُ الكلام: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السموات والأرض، فإذا تحيروا فلم يُجِيبُوا قل للَّه.

والصحيح من التَّأويل أن اللَّه ـــ عزَّ وَجَلَّ ـــ أمر نبيه ـــ عليه السلام ـــ أن يَقْطَعَهُمْ بهذه الحُجَّةِ، والبرهان القطعي الذي لا مُدَافَعَةَ فيه عندهم، ولا عند أَحَدٍ ليعتقدَ هذا المعتقد الذي بينه وبينهم، ثم يَتَرَكَّب احْتِجَاجُهُ عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يأيها الكافرون العَادِلُونَ بربهم لمن ما في السموات والأَرْضِ، ثم سَبَقَهُمْ فقال: للَّه أي لا مُدَافَعَةَ في هذا عندكم، ولا عند أحد.

ثم ابتدأ يخبر عن اللَّه تعالى: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } معناه: قضاها وأَنْفَذَهَا. وفي هذا المعنى أحاديث صَحِيحَةٌ؛ ففي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم " جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مَائَةً جُزْءٍ، فأمسك عنده تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فمن ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلاَئِقُ حتى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أن تُصِيبَهُ ". ولمسلم في طَرِيقٍ آخرُ: " كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طبَاقُ مَا بَيْنِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فإذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذه الرَّحْمة ". وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال: " لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ". وفي طريق: " سَبَقَتْ غَضَبِي " إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.

قال * ع *: فما أشْقَىٰ مَنْ لم تَسَعْهُ هذه الرَّحَمَاتُ. تَغَمَّدَنَا اللَّهِ بِفَضْلٍ منه.

ويتضمن هذا الإخبار عن اللَّه ـــ سبحانه ـــ بأنه كتب الرَّحْمَةَ لتأنيس الكفار، ونفي يَأْسهم من رَحْمَةِ اللَّه إذا أَنَابُوا.

واللام في قوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } لام قَسَم، والكلام مستأنف، وهذا أظهر الأَقْوَالِ وأصحها.

وقوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.

{ ٱلَّذِينَ } رفع بالابتداء، وخبره: { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.