الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } * { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

وقوله سبحانه: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ... } الآية: أخبر سبحانه أنه لو أتَىٰ بجميع ما ٱقترحُوه مِنْ إنزال ملائكةٍ وإحياءِ سلفهم حَسْبما ٱقترحه بعضُهم؛ أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره، فيخبر بصدْقِ محمَّد ـــ عليه السلام ـــ، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً ـــ ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء، لا ربَّ غيره.

وقرأ نافع وغيره: «قبلاً»، ومعناه مواجهةً ومعاينةً؛ قاله ابن عباس وغيره، ونصبه علَى الحالِ، وقال المبرِّد: معناه: ناحيةً؛ كما تقول: لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْنٌ.

قال * ع *: فنصبه؛ علَىٰ هذا: هو على الظرفِ، وقرأ حمزة وغيره: «قُبُلاً» ـــ بضمِّ القافِ والباءِ ـــ، وٱختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى «قِبَل» بكسر القافِ، أي: مواجهةً؛ كما تقول: قُبُل ودُبُر.

وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء: هو جَمْعُ قَبِيلٍ، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كلَّ شيء كُفَلاَءَ بصدْقِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قَبِيلٍ، أي: صنفاً صنفاً، ونوعاً نوعاً، والنصب في هذا كلِّه على الحال، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ، أي: يجهلون في ٱعتقادِهِمْ أن الآية تقتَضِي إيمانهم، ولا بُدَّ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك، قُلْتُ: وقال مكِّيٌّ: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ، أي: في مخالَفَتِكَ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئْتَهم به، وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ، فَإذَا أَحْرَقَتْهُ، قَالَ: نَحِّ عَنِّي مِخْصَرَتَكَ، فَوَاللَّهِ، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا ٱخْتَلَفَ عَلَيْكَ فِيهِ ٱثْنَانِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ، وَاللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَتَبَسَّمُ " انتهى من «الهداية».

وقوله سبحانه: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ... } الآيةَ: تتضمَّن تسلية النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَرْضَ القُدْوة عليه، أي: هذا الذي ٱمتحنْتَ به، يا محمَّد، مِن الأعداء قد ٱمتحنَ به غَيْرُك من الأنبياء؛ ليبتليَ اللَّه أُولِي العَزْم منهم، و { شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ }: يريدُ: المتمردِّين من النوعَيْن، و { يُوحِي }: معناه: يلقيه في ٱختفاءٍ، فهو كالمناجاةِ والسِّرَارِ، و { زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ }: محسَّنه ومُزَيَّنه بالأباطيل؛ قاله عكرمة ومجاهد، والزخرفة؛ أكثر ما تستعملُ في الشرِّ والباطل، و { غُرُوراً }: مصدرٌ، ومعناه يغرُّون به المضلَّلين، والضمير في { فعَلُوهُ } عائدٌ على ٱعتقادِهِمُ العداوةَ، ويحتملُ على «الوحْيِ» الذي تضمَّنه { يُوحِي }.

وقوله سبحانه: { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }: لفظٌ يتضمَّن الأمر بالموادعة، وهو منسوخٌ؛ قال قتادة: كُلُّ «ذَرْ» في كتاب اللَّه ـــ منسوخٌ بالقتالِ.