الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } * { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }

وقوله سبحانه: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } ، أجمع أهلُ السنَّة علَىٰ أن اللَّه عزَّ وجلَّ يُرَىٰ يوم القيامة، يَرَاهُ المؤمنون، والوَجْه أنْ يبيَّن جواز ذلك عقلاً، ثم يستند إلى ورود السمعِ بوقوعِ ذلك الجائِزِ، وٱختصارُ تبْيِينِ ذلك: أنْ يعتبر بعلمنا باللَّه ـــ عز وجل ـــ؛ فمن حيثُ جاز أنْ نعلمه؛ لا في مكانٍ، ولا متحيِّزاً، ولا مُقَابَلاً، ولم يتعلَّق علمنا بأكثر من الوجودِ، جاز أن نراه؛ غير مقابلٍ، ولا محاذًى، ولا مكيَّفاً، ولا محدَّداً، وكان الإمام أبو عبد اللَّه النحويُّ يقولُ: مسألةُ العِلْمِ حَلَقَتْ لِحَى المُعْتَزِلة، ثم ورد الشرْعُ بذلك؛ كقوله عزَّ وجلَّ:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22، 23]، وتعدية النَّظَر بـ «إلَىٰ» إنما هو في كلام العربِ؛ لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار؛ علَىٰ ما ذهب إليه المعتزلة؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه، وتواتر، وكثر نقله: " إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ " ، ونحوه من الأحاديث الصحيحةِ علَى ٱختلافِ ألفاظها، وٱستمْحَلَ المعتزلةُ الرؤيةَ بآراءٍ مجرَّدةٍ، وتمسَّكوا بقوله تعالَىٰ: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } وانفصال أهل السنَّة عن تمسُّكهم؛ بأن الآية مخصُوصَةٌ في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتةٌ بأخبارها؛ وأيضاً فإنا نَفْرُقُ بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤْيةِ، ونقول: إنه عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه؛ وذلك أن الإدراك يتضمَّن الإحاطة بالشيء، والوصولَ إلى أعماقِهِ وحَوْزِهِ من جميع جهاتِهِ، وذلك كلُّه محالٌ في أوصافِ اللَّه عزَّ وجلَّ، والرؤيةُ لا تفتقرُ إلى أنْ يحيطَ الرائي بالمرئيِّ، ويبلغ غايته، وعلَىٰ هذا التأويل يترتَّب العَكْس في قوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } ، ويحسن معناه، ونحو هذا رُوِيَ عن ابن عباسٍ وقتادة وعطيَّة العَوْفِيِّ؛ أنهم فَرَقُوا بين الرؤية والإدراك، و { ٱللَّطِيفُ }: المتلطِّف في خلقه وٱختراعه، والبَصَائِرُ: جمع بَصِيرة، فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآياتِ طرائقُ إبصار الحقِّ، والبصيرةُ للقَلْبِ مستعارةٌ من إبصارِ العَيْن، والبصيرةُ أيضاً هي المُعْتَقَدُ.

وقوله سبحانه: { فَمَنْ أَبْصَرَ } ، و { مَنْ عَمِيَ }: عبارةٌ مستعارةٌ فيمن ٱهتدَىٰ، ومَنْ ضَلَّ، وقوله: { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ـــ كان في أول الأمر وقَبْلَ ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم حفيظاً على العَالَمِ، آخذاً لهم بالإسلام؛ أو السيفِ.

وقوله سبحانه: { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلأَيَـٰتِ } أي: نردِّدها ونوضِّحها، وقرأ الجمهور: «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» ـــ بكسر اللام ـــ؛ علَىٰ أنها لامُ كَيْ، وهي علَىٰ هذا لامُ الصيرورة، أي: لَمَّا صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره: «دَرَسْتَ»، أي: يا محمد دَرَسْتَ في الكتبِ القديمةِ ما تجيئُنا به، وقرأ ابن كثير وغيره: «دَارَسْتَ»، أي: دارَسْتَ غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر: «دَرَسَتْ» ـــ بإسناد الفعل إلى الآيات ـــ؛ كأنهم أشاروا إلى أنها تردَّدت على أسماعهم؛ حتى بَلِيَتْ في نفوسهم، وٱمَّحَتْ، واللام في قوله: { لِّيَقُولواْ } ، وفي قوله: { وَلِنُبَيِّنَهُ }: متعلِّقانِ بفعلِ متأخِّر، وتقديره: «صَرَّفْنَاهَا»، وذهب بعض الكوفيِّين إلى أنَّ «لا»: مضمرةٌ بعد «أَنِ» المقدَّرةِ في قوله: { وَلِيَقُولُواْ } ، فتقدير الكلام عندهم: وَلأنْ لاَ يَقُولُوا دَرَسْتَ؛ كما أضمروها في قوله:

السابقالتالي
2