الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

وقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَـٰجِرِينَ }: بيان لقوله: { وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وكرر لام الجر، لما كانت الجملة الأولى مجرورةً باللام؛ ليبيِّنَ أَنَّ البدل إنَّما هو منها، ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم، وتُوجِبُ الشفقة عليهم، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً }: يريد به الآخرة والجنة: { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ } أي: في الأقوال والأفعال والنِّيَّاتِ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ }: هم الأنصار ـــ رضي اللَّه عن جميعهم ـــ، والضمير في { مِن قَبْلِهِمُ } للمهاجرين، والدار هي المدينة، والمعنى: تبوؤوا الدار مع الإيمان، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى: { مِن قَبْلِهِمْ } فتأمله، قال * ص *: { وَٱلإِيمَـٰنَ } منصوب بفعل مُقَدَّرٍ، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف الجمل؛ كقوله: [من الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً   ......................
انتهى، وقيل غير هذا، وأثنى اللَّه تعالى في هذه الآية على الأنصار بِأَنَّهُمْ يحبون المهاجرين، وبأَنَّهم يؤثرون على أنفسهم، وبأَنَّهم قد وُقُوا شُحَّ أنفسهم.

* ت *: وروى الترمذيُّ عن أنس قال: " لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذَلَ لِكَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاساةً في قلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؛ لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا في الْمِهْنَةِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لاَ، مَا دَعَوتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى، والحاجة: الحسد في هذا الموضع؛ قاله الحسن، ثم يَعُمُّ بعدُ وُجُوهاً، وقال الثعلبيُّ: { حَاجَةً } أي: حَزَازَةً، وقيل: حسداً { مِّمَّا أُوتُواْ } أي: مما أعطي المهاجرون من أموال بَنِي النضير والقرى، انتهى.

وقوله تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }: صفة للأنصار، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق، " أَنَّها نزلت بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيفِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ إذْ نَوَّمَ صبيانه، وَقَدَّمَ للضيف طعامَه، وأطفأتْ أهلُه السراجَ، وأوهما الضيفَ أَنَّهُمَا يأكلان معه، وباتا طاويين؛ فلمَّا غدا الأنصاريُّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ» " ونزلت الآية في ذلك، قال صاحب «سلاح المؤمن»: الرجل الأنصاريُّ الذي أضاف هو، أبو طلحة انتهى، قال الترمذيُّ الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد اللَّه بن عاصم: حدثنا الجمانيُّ: حدثنا صالح المُرِّيُّ عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " إنَّ بُدَلاَءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ؛ إنَّما دَخَلُوهَا بِسَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ، وَحُسْنِ الخُلُقِ، والرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ " انتهى، والإيثار على النفس أكرم خلق، قال أبو يزيد البسطاميُّ: قدم علينا شاب من بَلْخٍ حاجًّا فقال لي: ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، فقال: هكذا عندنا كلابُ بلخ! فقلت له: فما هو عندكم؟! فقال: إذا فقدنا صَبْرَنَا، وَإذَا وجدنا آثرنا، ورُوِيَ أَنَّ سبب هذه الآيةِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، لَمَّا فَتَحَ هٰذِهِ الْقُرَى قَالَ لِلأَنْصَارِ:

السابقالتالي
2