الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } * { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ }

وقوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ... } الآية: تسليةٌ لنبيِّه ـــ عليه السلام ـــ وتقويةٌ لنفسه؛ بسبب ما كان يلقَىٰ من طوائف المنافقين واليهود، والمعنَىٰ: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره: قوله تعالى: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } يراد به المنافقون.

وقوله: { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ }: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين؛ لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه؛ ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة؛ إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك.

وقوله سبحانه: { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ }: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ عن جابر؛ أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ } بمعنَىٰ: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ؛ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ.

قال: * ع *: وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ }.

وقوله سبحانه: { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ }: هذه صفةُ اليهود في معنَىٰ ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم { مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } ، أي: من بعد أن وُضِعَ مواضِعَهُ، وقصدت به وجوهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: ٱسْتَفْتُوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فٱحذروا الرجْمَ؛ قاله الشعبيُّ وغيره وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة بـ { هَـٰذَا } إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، علَىٰ قولٍ، ثم قال تعالَىٰ لنبيِّه ـــ عليه السلام ـــ؛ على جهة قَطْع الرجاء منهم: { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ } أي: محنَتَهُ بالكفر، { فلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } ، ثم أخبر تعالَىٰ عنهم؛ أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألاَّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، { لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ }؛ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة.

قال * ص *: { سَمَّـٰعُونَ } ، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى.

وقوله سبحانه: { أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ }: فعَّالون؛ بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال.

وقوله تعالى: { فَإِن جَاءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }: تخييرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه:

السابقالتالي
2