الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } * { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

وقوله تعالى: { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً... } الآية: قيل: أصبح في ثاني يومٍ قتله يطلب إخفاء أَمْرِ قتله، فلم يَدْرِ ما يصنعُ به، فبعث اللَّه غراباً حيًّا إلى غرابٍ ميتٍ، فجعل يبحَثُ في الأرض، ويُلْقِي الترابَ على الغُرَاب الميِّت، وظاهرُ الآية أنَّ هابيلَ هو أول مَيِّتٍ من بني آدم، ولذلك جَهِلَ سُنَّة المواراةِ؛ وكذلك حكى الطبريُّ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أَهْلِ العِلْمِ بما في الكُتُب الأَوَلِ، والسَّوْءَةُ: العورةُ، ويحتمل أن يراد الحالة التي تَسُوء النَّاظر، ثم إن قابيلَ وارَىٰ أخَاه، ونَدِمَ علَىٰ ما كان منه مِنْ معصية في قَتْله، حيث لا ينفعه الندم.

واختلف العلماء في قابيلَ، هل هو مِنَ الكُفَّار أو من العُصَاة، والظاهر أنه من العُصَاة، قال الفَخْر: ولم ينتفعْ قابيلُ بندمه؛ لأن نَدَمَهُ كان لأسبابٍ؛ منها: سَخَط أبويه وإخوته، وعدمُ انتفاعه بقتله، وَنَحْوُ ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسبابِ لا لأجْلِ الخَوْف من اللَّه تعالَىٰ، فلا جَرَمَ لم ينفعْهُ هذا الندَمُ.

وقوله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ } هو إِشارة إلى ما تضمَّنته هذه القصَّة من أنواع المفاسِدِ الحاصلة بسبب القَتْل الحرامِ، لا أنه إشارة إلى قصة قابيلَ وهابيلَ. انتهى.

وقوله سبحانه: { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرٰءِيلَ... } الآية: جمهورُ النَّاس علَىٰ أن قوله: { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ }: متعلِّق بقوله: { كَتَبْنَا } أي: من أجل هذه النازلة، ومِنْ جَرَّاها؛ كتبنا، وقالَ قومٌ: بل هو متعلِّق بقوله: { مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } أي: ندم؛ من أجل ما وقع، والوقْفُ؛ علَىٰ هذا، على { ذٰلِكَ } ، والناس على أن الوَقْف { مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } ، ويقال: فعلْتُ ذلك مِنْ أَجْلِكَ ـــ بفتح الهمزة ـــ ومِنْ إجْلِكَ ـــ بكسرها ـــ.

وقوله سبحانه: { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي: بغير أن تَقْتُلَ نفْسٌ نفْساً، والفسادُ في الأرض: يجمع الزنا، والارتداد، والحِرَابة.

وقوله سبحانه: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } روي عن ابن عباس؛ أنه قال: المعنَىٰ: مَنْ قتل نفساً واحدةً، وٱنتهكَ حرمتها، فهو مِثْلُ مَنْ قتل الناس جميعاٌ، ومَنْ ترك قتْلَ نفسٍ واحدةٍ، وصان حرمتها؛ مخافَتِي، وٱستحياها، فهو كَمَنْ أحيا الناسَ جميعاً، قال الحسنُ وابْنُ زيدٍ: { وَمَنْ أَحْيَـٰهَا } أي: عفا عمَّن وَجَبَ له قتلُهُ بعد القدرة، وقيل غير هذا.

ثم أخبر تعالَىٰ عن بني إسرائيل؛ أنهم جاءتهم الرسُلُ بالبيِّنات في هذا وفي سِوَاه، { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ } في كُلِّ عَصْر يسرفُونَ، ويتجاوزون الحُدُود.