الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }

وقوله سبحانه: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ... } الآيَة: تسليةٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أي: لا تَهْتَمَّ بأمر الكَفَرَةِ من أجل إعراضهم عن الإيمان، وقوله: { إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } إشارة إلى الأصنام؛ إذ كانوا يعبدون ما يَهْوَوْنَ من الحجارة، وقال قتادة: المعنى: لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ، لا يخافُ اللَّه؛ فهذا كما يقال: الهَوَىٰ إلٰهٌ مَعْبُودٌ، وهذه الآية وإنْ كانت نزلَتْ في هَوَى الكُفْر؛ فهِي مُتَنَاوِلَةٌ جميعَ هوى النفس الأَمَّارَةِ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّىٰ عَلَى اللَّهِ " ، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ؛ فَإنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُك،، وقال وهْبٌ: إذا عَرَضَ لك أمران، وشككْتَ في خَيْرِهِمَا، فَٱنظُرْ أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ؛ ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل]
إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهِوَىٰ قَادَكَ الْهَوَىٰ   إلَىٰ كُلِّ مَا فيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ
قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: " فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلِيَتْبَعْهُ " «شيئاً» يعم جَمِيعَ الأشياء، مُدْرَكَةً كانَتْ أو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ، فالمُدْرَكُ: كالشمس والقمر، وَغَيْرُ المُدْرَكِ، مِثْلُ: الملائكة والهَوَىٰ؛ لقوله عزَّ وجَلَّ: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } ، وما أشبه ذلك، انتهى،، قال القُشَيْرِيُّ في «رسالته»: وحُكِيَ عن أبي عمران الواسطيِّ قال: ٱنكسرَتْ بنا السفينةُ، فَبَقِيتُ أنا وٱمْرَأَتِي على لَوْحٍ، وقد وَلَدَتْ في تِلْكَ الحَالِ صَبِيَّةٌ، فصَاحَتْ بي، وقالت: يَقْتُلُنِي العَطَشُ، فقلْتُ: هو ذا يَرَىٰ حالَنَا، فرفعتُ رَأْسِي، فإذا رجُلٌ في الهواء جالِسٌ في يده سِلْسِلَةٌ من ذَهَبٍ، وفيها كُوزٌ من ياقُوتٍ أَحْمَرَ، فقال: هَاكَ، ٱشْرَبَا، قال: فأخذتُ الكُوزَ فَشَرِبْنَا منه، فإذا هو أطيبُ مِنَ المِسْكِ، وأبردُ مِنَ الثَّلْجِ، وأحلَىٰ من العَسَلِ، فقلت: مَنْ أَنْتَ ـــ رَحِمَكَ اللَّه؟ ـــ فقال: عبدٌ لمولاكَ، فقلْتُ له: بِمَ وَصَلْتَ إلَىٰ هذا؟ فقال: تركْتُ هَوَايَ لمَرْضَاتِهِ، فأجلَسَنِي في الهواء، ثُمَّ غَابَ عَنِّي، ولم أره، انتهى.

وقوله تعالى: { عَلَىٰ عِلْمٍ } قال ابن عباس: المعنى: على عِلْمٍ من اللَّه تعالى سَابِقٍ، وقالت فرقة: أي: على عِلْمٍ من هذا الضَّالِّ بتَرْكِهِ للحَقِّ وإعراضِهِ عنه، فتكُونُ الآية علَىٰ هذا التأويل من آيات العِنَادِ؛ من نحو قوله:وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ } [النمل:14].

وقوله تعالى: { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } استعاراتٌ كُلُّهَا.

وقوله: { مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } فِيهِ حَذْفُ مضافٍ، تقديره: مِنْ بعدِ إضلالِ اللَّهِ إيَّاه، واخْتُلِفَ في معنى قولهم: { نَمُوتُ وَنَحْيَا } فقالت فرقة: المعنى: يَمُوتُ الآباء، ويحيا الأبناء، وقالت فرقة: المَعْنَىٰ: نَحْيَا ونَمُوتُ، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، وقولهم: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أي: طولُ الزمانِ.