الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } * { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ }

وقوله سبحانه: { أَفَنَضْرِبُ } بمعنى: أفنترك؛ تقول العرب: أَضْرَبْتُ عن كذا وضَرَبْتُ: إذا أَعْرَضْتَ عنه وتركْتَهُ، و { ٱلذِّكْرِ } هو: الدعاء إلى اللَّه، والتذكير بعذابِه، والتخويف من عقابه، وقال أبو صالح: الذِّكْرُ هنا أراد به العذاب نفسه، وقال الضَّحَّاكُ ومجاهد: الذكر القرآن.

وقوله: { صَفْحاً }: يحتمل أَنْ يكون بمعنى العفو والغفر للذنوب، فكأَنَّهُ يقول: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم، وغفراً لإجرامكم؛ من أجل أنْ كنتم قوماً مسرفين، أي: هذا لا يصلح؛ وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل قوله: { صَفْحاً } أنْ يكون بمعنى مغفولاً عنه، أي: نتركه يَمُرُّ لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبُّره، فكأَنَّ المعنى: أفنترككم سُدًى، وهذا هو مَنْحَىٰ قتادةَ وغيره، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «إنْ كُنْتُمْ» بكسر الهمزة، وهو جزاءً دَلَّ ما تقدَّمه على جوابه، وقرأ الباقون بفتحها بمعنى: من أجل أَنْ، والإسراف في الآية هو كُفْرُهُمْ.

{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى ٱلأَوَّلِينَ } أي: في الأُمَمِ الماضية، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وغيرهم.

{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أي: كما يستهزىء قومك بك، وهذه الآية تسلية للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وتهديد بأَنْ يصيبَ قريشاً ما أصاب مَنْ هو أَشَدُّ بَطْشاً منهم.

{ وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: سلف أمرهم وسُنَّتُهُم، وصاروا عبرةً غَابِرَ الدَّهْرِ، أنشد صاحبُ «عنوان الدِّرَايَةِ»لشيخه أبي عبد اللَّه التَّمِيميِّ: [البسيط]
يَا وَيْحَ مَنْ غَرَّهُ دَهْرٌ فَسُرَّ بِهِ   لَمْ يَخْلُصِ الصَّفْوُ إلاَّ شِيبَ بِالْكَدَرِ
هُوَ الْحِمَامُ فَلاَ تُبْعِد زِيَارَتَه   وَلاَ تَقُلْ لَيْتَنِي مِنْهُ عَلَىٰ حَذَرِ
انْظُرْ لِمَنْ بَادَ تَنْظُرْ آيَةً عَجَباً   وَعِبْرَةً لأولي الأَلْبَابِ وَالْعِبَرِ
أَيْنَ الأُلَىٰ جَنَبُوا خَيْلاً مُسَوَّمَةً   وَشَيَّدُوا إرَماً خَوْفاً مِنَ الْقَدَرِ
لَمْ تُغْنِهِمْ خَيْلُهُمْ يَوْماً وَإنْ كَثُرَتْ   وَلَمْ تُفِدْ إِرَمٌ لِلْحَادِثِ النُّكُرِ
بَادُوا فَعَادُوا حَدِيثاً إنَّ ذَا عَجَبٌ   مَا أَوْضَحَ الرَّشْدَ لَوْلاَ سَيِّىءُ النَّظَرِ
تَنَافَسَ النَّاسُ في الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا   أَنَّ المُقَامَ بِهَا كَاللَّمْحِ بِالْبَصَرِ
انتهى.