الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } * { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } * { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } * { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } * { أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ }

وقوله عزَّ وجلَّ: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الآية، وعَشَا يَعْشُو معناه: قَلَّ الإبصارُ منه، ويقال أيضاً: عَشِيَ الرجلُ يَعْشَىٰ: إذا فَسَدَ بَصَرُه، فلم يَرَ، أَو لَمْ يَرَ إلاَّ قليلاً، فالمعنى في الآية: ومَنْ يَقِلُّ بَصَرُهُ في شرع اللَّه، ويغمضُ جفونه عن النَّظَرِ في ذِكْرِ الرحْمٰنِ، أي: فيما ذكَّر به عباده، أي: فيما أنزله من كتابه، وأوحاه إلى نَبِيِّه.

وقوله: { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } أي: نُيَسِّرْ له، ونُعِدَّ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدمِ الفلاحِ، وهذا كما يقال: إنَّ اللَّه تعالى يُعَاقِبُ على المعصية بالتزيُّد في المعاصي، ويجازي على الحسنة بالتزيُّد من الحَسَنَاتِ، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً. قال * ص *: { وَمَن يَعْشُ } الجمهور بضم الشين، أي: يَتَعَامَ ويتجاهَلْ، فـ { مَنْ } شرطيةٌ، و { يَعْشُ } مجزومٌ بها، و { نُقَيِّضْ } جوابُ { مَنْ } ، انتهى، والضمير في قوله: { وَإِنَّهُمْ } عائد على الشياطين، وفيما بعده عائد على الكُفَّارِ، وقرأ نافع وغيره: «حَتَّى إذَا جَاءَانَا»؛ على التثنية، يريد: العاشي والقرين؛ قاله قتادة وغيره، وقرأ أبو عمرو وغيره: «جَاءَنا» يريد العاشي وحدَه، وفاعل { قَالَ } هو العَاشِي، قال الفَخْرُ: ورُوِيَ أَنَّ الكافر إذا بُعِثَ يوم القيامة من قبره أَخَذَ شَيْطَانٌ بيده، فلم يُفَارِقْهُ حَتَّىٰ يصيِّرهما اللَّه إلى النار، فذلك حيث يقول: { يَٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } انتهى.

وقوله: { بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } يحتمل مَعَانِيَ:

أحدها: أن يريد بُعْدَ المشرق من المغرب، فَسَمَّاهما مَشْرِقَيْنِ؛ كما يقال القَمَرَانِ، والعُمَرَانِ.

والثاني: أنْ يريد مشرق الشمس في أطول يوم، ومشرقها في أقصر يوم.

والثالث: أنْ يريد بعد المشرقَيْنِ من المغربين، فاكتفى بذكر المشرقين.

قلت: واستبعد الفَخْرُ التأويل الثاني قال: لأَنَّ المقصودَ من قوله: { يَٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } المبالغةُ في حصول البُعْدِ، وهذه المبالغة إنَّما تحصل عند ذكر بُعْدٍ لا يمكن وُجُودُ بُعْدٍ أزيدَ منه، والبُعْدُ بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ليس كذلك، فَيَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عليه؛ قال: والأكْثَرُونَ عَلَى التأويل الأَوَّلِ، انتهى.

وقوله تعالى: { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ... } الآية، حكايةٌ عن مقالة تُقَالُ لهم يوم القيامة، وهي مقالة مُوحِشَةٌ فيها زيادةُ تعذيبٍ لهم ويأْسٍ من كل خير، وفاعل { يَنفَعَكُمُ } الاشتراك، ويجوز أنْ يكون فاعل { يَنفَعَكُمُ } التُّبَرِّي الذي يدل عليه قوله: { يَٰلَيْتَ }.

وقوله سبحانه: { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ... } الآية، خطاب لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وباقي الآية تكرَّر معناه غيرَ ما مَرَّةٍ.