الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } * { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }

وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } هذه آية تسليةٍ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين، والمعنى: ليس عليك إلاَّ البلاغ فقطْ، فلا تَهْتَمَّ بعدم إيمان قريشٍ وغيرهم، اللَّه هو الحفيظُ عليهم كُفْرَهُمْ المُحْصِي لأعمالهم، المُجَازِي عليها، وأَنْتَ لَسْتَ بوكيلٍ عليهم، وما في هذه الألفاظِ مِنْ موادَعَةٍ فمنسوخٌ؛ قال الإمام الفَخْرُ في شرحه لأسماء الله الحسنى، عند كلامه على اسمه سبحانه «الحفيظ»: قال بعضهم: ما من عبد حَفِظَ جوارِحَه إلاَّ حَفِظَ اللَّه عليه قَلْبَهُ، وما من عبد حَفِظَ اللَّهُ عليه قلبه إلاَّ جعله حُجَّةً على عباده، انتهى، ثم قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } [المعنى: وكما قضينا أمرك هكذا، وأمضيناه في هذه السورةِ كذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً] مبيناً لهم، لا يحتاجُونَ إلَىٰ آخَرَ سِوَاهُ، إِذْ فَهْمُهُ مُتَأَتِّ لَهُمْ، ولم نكلِّفْكَ إِلاَّ إَنذار مَنْ ذكر، و { أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } هي مكة، و { يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } هو يوم القيامة، أي: تخوفهم إيَّاهُ.

وقوله: { فَرِيقٌ } مرتَفِعٌ على خبر الابتداء المُضْمَرِ؛ كأنَّه قال: هُمْ فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السَّعِيرِ، ثم قَوَّىٰ تعالى تسليةَ نَبِيِّه بأَنْ عَرَّفَه أَنَّ الأمر موقوفٌ على مشيئة اللَّه من إيمانهم أو كُفْرهم، وأَنَّه لو أراد كونهم أُمَّةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، لجمعهم عليه؛ ولكِنَّه سبحانه يدخل مَنْ سبقَتْ له السعادةُ عنده في رحمته، ويُيَسِّره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأَنَّ الظالمين بالكفر المُيَسَّرِينَ لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير، قال عبدُ الحَقِّ ـــ رحمه اللَّه ـــ في «العاقبة»: وقد علمتَ (رحمك اللَّه) أَنَّ الناس يوم القيامة صنفان:

صنف مُقَرَّبٌ مُصَانٌ.

وآخر مُبْعَدٌ مُهَانٌ.

صنف نُصِبَت لهم الأَسِرَّة والحِجَال؛ والأرائكُ والكِلاَل؛ وجُمِعَتْ لَهُمُ الرغائبُ والآمالُ.

وآخَرُونَ أُعِدَّتْ لهم الأراقمُ والصِّلاَلِ؛ والمقامعُ والأغلالِ؛ وضروبُ الأهوال والأنْكَال، وأنْتَ لا تعلم من أَيِّهما أنْتَ؛ ولا في أَيِّ الفريقَيْن كُنْتَ: [الكامل]
نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قَبَائِلِ نَوْفَل   وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ
وَتَقَلَّبُوا فَرِحِينَ تَحْتَ ظِلاَلِهَا   وَطُرِحْتُ بِالصَّحْرَاءِ غَيْرَ مُظَلَّلِ
وَسُقُوا مِنَ الصَّافي الْمُعَتَّقِ رِيُّهُم   وَسُقِيتُ دَمْعَةَ وَالِهٍ مُتَمَلْمِلِ
بكى سفيانُ الثوريُّ ـــ رحمه اللَّه ـــ ليلةً إلى الصَّبَاحِ، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض، وقال: الذنوبُ أَهْوَنُ من هذا؛ إنَّما أَبْكِي؛ خوفَ الخاتمةِ، وبَكَى سفيان، وغير سفيان، وَإنَّهُ لِلأَمْر يُبْكَىٰ عليه؛ وَيصرف الاهتمام كلّه إليه.

وقد قيل: لا تَكُفَّ دَمْعَك؛ حَتَّىٰ تَرَىٰ في المعاد رَبْعَك.

وقيل: يابْنَ آدم، الأقلام عليك تَجْرِي، وأنْتَ في غفلة لا تَدْرِي، يابْنَ آدمَ دَعِ التنافُسَ في هذه الدار، حتى تَرَىٰ ما فَعَلَتَ في أمرِكَ الأَقْدَار، سمع بعض الصالحينَ مُنْشِداً ينشد: [الطويل]
أَيَا رَاهِبِي نَجْرَانَ مَا فَعَلَتْ هِنْد   .............................
فبكَىٰ ليلةً إلى الصباح، فَسُئِلَ عن ذلك فقال: قلتُ في نفسي: ما فعلَتِ الأقدار فيّ؛ وماذا جَرَتْ به عَلَيّ؟ انتهى.