الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } * { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } * { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ }

وقوله تعالى: { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ }: أوْبَقْتُ الرَّجُلَ: إذا أَنْشَبْتَهُ في أمْرٍ يَهْلِكُ فِيهِ، وهو في السفُنِ تغريقها و { بِمَا كَسَبُواْ } أي: بذنوب رُكَّابها، وقرأ نافع، وابن عامر: «وَيَعْلَمُ» بالرفع؛ على القطع والاستئناف، وقرأ الباقون والجمهور: «وَيَعْلَمَ» بالنصب؛ على تقدير «أنْ»، و«المَحِيصُ»: المَنْجَىٰ، وموضعُ الرَّوَغَانِ.

ثم وعَظَ سبحانه عبادَهُ، وحَقَّر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورَغَّبَهُمْ فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه، وعَظَّم قَدْرَ ذلك في قوله: { فَمَا أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وقرأ الجمهور: { كَبَـٰئِرَ } على الجمع؛ قال الحسن: هي كُلُّ ما تُوُعِّدَ فيه بالنار، وقد تقدَّم ما ذَكَرَهُ الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها، { وَٱلْفَوٰحِشَ }: قال السُّدِّيُّ: الزنا، وقال مقاتل: مُوجِبَاتُ الحدود.

وقوله تعالى: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } حَضٌّ على كسر الغضب والتدرُّب في إطفائه؛ إذ هو جمرةٌ من جَهَنَّمَ، وبَابٌ مِنْ أبوابها، وقال رجلٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " أوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْني، قَال: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ " ، ومَنْ جاهد هذا العَارِضَ مِنْ نَفْسِهِ حتَّىٰ غَلَبَهُ، فقدْ كُفِيَ هَمًّا عظيماً في دنياه وآخرته.

* ت *: " وروىٰ مالكٌ في «المُوَطَّإ» أَنَّ رجُلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَىٰ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَغْضَبْ» " قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أراد: عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بكلماتٍ قليلةٍ؛ لئلاَّ أَنْسَىٰ إنْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ، ثم أسند أبو عُمَرَ من طُرُقٍ عن الأحنفِ بن قَيْسٍ عن عَمِّه جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ، أَنَّه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لِي؛ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، قَال: " لاَ تَغْضَبْ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِراراً، كُلُّها يُرَجِّعُ إليه رسُولُ اللَّه: لاَ تَغْضَبْ " ، انتهَىٰ من «التمهيد»، وأسند أبو عُمَرَ في «التمهيد» أيضاً عن عبد اللَّه بن أبي الهُذَيْلِ قال: لما رأىٰ يحيَىٰ أَنَّ عيسَىٰ مُفَارِقُهُ قال له: أَوْصِنِي، قَالَ: لا تَغْضَبْ، قال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قال: لا تَقْتَنِ مَالاً، قال عَسَى. انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ أقال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنْهُمْ، وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، قال ابن المُبَارَكِ: وأخبرنا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ قال: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالَىٰ يَقُولُ: " مَنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي في مَلإَ ذَكَرْتُهُ في مَلإَ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ فَلَمْ أَمْحَقْهُ فِيمَنْ أَمْحَقُ " انتهى.