الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } * { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } * { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ }

وقوله تعالى: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } يحتمل أنْ يكون من كلام الجلود، ويحتمل أنْ يكون من كلام اللَّه عز وجل، وجمهور الناس على أَنَّ المراد بالجلود الجلودُ المعروفةُ، وأمَّا معنى الآية فيحتمل وجهين:

أحدهما: أن يريد وما كنتم تَتَصَاونُونَ وتَحْجِزُونَ أَنْفُسَكُمْ عن المعاصي والكُفْر؛ خوفَ أَنْ يشهد، أو لأَجْلِ { أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ... } الآية، وهذا هو مَنْحَىٰ مجاهد، والمعنى الثاني أنْ يريد: وما يمكنكم ولاَ يسَعُكُمْ الاخْتفاءُ عن أَعْضَائِكُمْ، والاستتارُ عنها بكُفْرِكُمْ ومعاصيكم، وهذا هو مَنْحَى السُّدِّيِّ، وعن ابن مسعود قال: " إِنِّي لمستترٌ بأستارِ الكعبةِ، إذْ دَخَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَتَحَدَّثُوا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَترَى اللَّهَ يَسْمَعُ مَا قُلْنَا؟ فَقَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إذَا رفَعْنَا، وَلا يَسْمَعُ إذَا أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً فَإنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلَّهُ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } ، وقرأ حتى بلغ: { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } ". قال الشيخ أبو محمَّدِ بْنُ أبي زَيْدٍ في آخر: «مُخْتَصَرِ المُدَوَّنَةِ» له: واعلم أنَّ [الأجساد التي أطاعت أو عصت، هي التي تُبْعَثُ يومَ القيامة لِتُجَازَىٰ، والجلودُ التي كانَتْ في الدنيا، والألسنةُ]، والأيْدِي، والأرجُلُ هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على مَنْ تشهَدُ، انتهى.

قال القرطبيُّ في «تذكرته»: واعلم أَنَّ عند أهل السنة أَنَّ تلك الأجسادَ الدُّنْيَوِيَّةَ تُعَادُ بأعيانها وأعراضِهَا بلا خلافٍ بينهم في ذلك، انتهى، ومعنى { أَرْدَاكُمْ }: أهلككم، والرَّدَى: الهَلاَكُ؛ وفي صحيحُ «البخاريِّ» و«مسلم» عن جابر قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ قبل وفاته بثلاثٍ: " لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِّلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وذكره ابن أبي الدنيا في كتابٍ حَسَنِ الظنِّ باللَّه عز وجلَّ، وزاد فيه: «فَإنَّ قَوْماً قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ } انتهى، ونقله أيضاً صاحب «التذكرة».

وقوله تعالى: { فَإِن يَصْبِرُواْ } مخاطبةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمعنى: فإنْ يصبروا أوْ لا يَصْبِرُوا، واقتصر لدلالة الظاهِرِ علَىٰ ما ترك.

وقوله تعالى: { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } معناه: وإنْ طَلَبُوا العُتَبَىٰ، وهي الرضَا فما هم مِمَّنْ يُعْطَاها ويَسْتَوْجِبُهَا؛ قال أبو حَيَّان: قراءة الجمهور: «وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا مبنيًّا للفاعل، و: { مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } مبنيًّا للمفعول، أي: وإِنْ يعتذروا فما هم من المَعْذُورِينَ، انتهى.

ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حِينَ أعرضوا، فَحْتَّمَ عليهم، فقال: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ } ، أي: يَسَّرْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ سَوْءٍ من الشياطين وغُوَاةِ الإنْسِ.

وقوله: { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي: عَلَّمُوهم، وقَرَّروا لهم في نفوسهم معتقداتِ سوءٍ في الأمور التي تقدَّمتهم من أمر الرسُلِ والنُبُوَّاتِ، ومَدْحِ عبادةِ الأصنامِ، وٱتِّباعِ فعل الآباء، إلى غير ذلك مِمَّا يُقَالُ: إنَّه بين أيدِيهِمْ، وذلك كلُّ ما تقدَّمهم في الزَّمَنِ، وٱتَّصَلَ إليهم أثره أو خَبَرُهُ، وكذلك أعطُوهُمْ معتقداتِ سوءٍ فيما خَلْفهم، وهو كلُّ ما يأتي بَعْدَهُمْ من القيامة والبعث ونَحْوِ ذلك { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي: سبق عليهم القضاءُ الحَتْمُ، وأَمَرَ اللَّهُ بتَعْذِيبِهِمْ في جملةِ أُمَمٍ مُعَذِّبِينَ، كُفَّارٍ من الجنِّ والإنس.

السابقالتالي
2