الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } * { وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }

وقوله تعالى: { وَٱلَّـٰتِي يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ... } الآية: الفَاحِشَةُ؛ في هذا الموضِعِ: الزِّنَا، وقوله: { مِّن نِّسَائِكُم } ، إضافةٌ في معناها الإسلام، وجعل اللَّه الشهادة علَى الزِّنَا خاصَّة لا تَتِمُّ إلا بأربعةِ شُهَدَاءَ، تَغْلِيظاً على المُدَّعي، وسَتْراً على العبادِ.

قلت: ومن هذا المعنى ٱشتراطُ رُؤْية كَذَا في كَذَا؛ كَالمِرْوَدِ في المُكْحُلَة.

قال * ع *: وكانَتْ أولُ عقوبة الزُّنَاةِ الإمْسَاكَ في البُيُوت، ثم نُسِخَ ذلك بالأذَى الَّذي بَعْده، ثم نُسِخَ ذلك بآية النُّور وبالرَّجْمِ في الثَّيِّب؛ قاله عبادة بنُ الصَّامت وغيره، وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن؛ أنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْهُ، وَوَجْهُهُ مُحْمَرٌّ، فَقَالَ: " قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً؛ البِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ، خرَّجه مُسْلِم، وهو خَبَرٌ آحادٌ، ثم ورد في الخَبَر المتواتِرِ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم رَجَمَ، وَلَمْ يَجْلِدْ، فَمَنْ قال: إن السُّنَّة المتواتِرَةَ تَنْسَخُ القُرآن، جعَلَ رَجْمَ الرسول دُونَ جَلْدٍ ناسخاً لجَلْدِ الثيِّب، وهذا الذي عليه الأَمَّة؛ أنَّ السُّنَّة المتواترة تَنْسَخُ القُرآن؛ إذ هما جميعاً وحْيٌ من اللَّه سبحانَهُ، ويوجِبَانِ جميعاً العِلْم والعَمَل.

ويتَّجه عندي في هذه النَّازلة بعَيْنها أنْ يُقَالَ: إن الناسِخَ لِحُكْمِ الجَلْد هو القرآن المتَّفَقُ علَىٰ رَفْعِ لفظه، وبقاءِ حُكْمه في قوله تعالى: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَٱرْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ»، وهذا نصٌّ في الرجم، وقد قَرَّره عمر على المِنْبر بمَحْضَر الصَّحابة، والحديثُ بكماله في مُسْلم، والسُّنَّةُ هي المبيِّنة، ولفظُ «البخاريِّ»: «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً؛ الرَّجْمُ لِلثَّيِّب، وَالجَلْدُ لِلْبِكْرِ». انتهى.

وقوله تعالى: { وَٱلَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ... } الآية: قال مجاهدٌ وغيره: الآيةُ الأُولَىٰ في النساء عموماً، وهذه في الرِّجال، فعقوبةُ النِّساء الحَبْسُ، وعقوبةُ الرِّجَالِ الأذَىٰ، وهذا قولٌ يقتضيه اللَّفْظ، ويستوفي نصُّ الكلام أصنافَ الزُّنَاة عامَّة؛ ويؤيِّده مِنْ جهة اللفظ قولُه في الأولَىٰ: { مّن نِّسَائِكُمُ } ، وقوله في الثانية: { مّنكُمْ } ، وأجمع العلماءُ علَىٰ أنَّ هاتين الآيتين منُسْوخَتَانِ؛ كما تقدَّم.