الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله تعالى: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً... } الآية: هذه الآيةُ حُكْمٌ من اللَّه تعالَىٰ في أمْرِ المرأةِ الَّتِي تكُونُ ذاتَ سِنٍّ ونَحْو ذلك ممَّا يرغَبُ زوجُها عَنْها، فيعرض عليها الفُرْقَة أو الصَّبْر على الأَثَرة، فتُرِيدُ هي بَقَاءَ العِصْمة، فهذه التي أَبَاحَ اللَّه بينهما الصُّلْحَ ورَفَعَ الجُنَاحَ فيه.

واختلف في سَبَبِ نزولِ الآية، فقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ: نزلَتْ في النبيِّ ـــ عليه السلام ـــ وسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ وفي المصنَّفات: أن سَوْدَةَ لما كَبِرَتْ، وَهَبَتْ يومها لعائشة، وقال ابنُ المُسَيَّب وغيره: نزلَتْ بسبب رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وامرأتِهِ خَوْلَةَ، وقال مجاهدٌ: نزلَتْ بسبب أبي السَّنَابِلِ وامرأتِهِ، ولفظُ ابنِ العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً... } الآية: قالَتْ عائشةُ (رضي اللَّه تعالى عنها): هِيَ المرأَةُ تكُونُ عند الرجُلِ ليس بمستكْثِرٍ منها يريدُ أنْ يفارقَهَا، فتقولُ لَهُ: أجعلُكَ مِنْ شأنِي في حِلٍّ، فنزلَتِ الآية، قال الفقيهُ أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: فرضوانُ اللَّه علَى الصِّدِّيقة المُطَهَّرة، لَقَدْ وفَّتْ بما حَمَّلها ربُّها من العَهْد في قوله تعالى:وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } [الأحزاب:34] انتهى.

وقوله تعالى: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } لفظٌ عامٌّ مطلقٌ يقتضي أنَّ الصُّلّحَ الحقيقيَّ الذي تسكن إلَيْه النفوسُ، ويزولُ به الخلافُ خَيْرٌ على الإطلاق، ويندرج تحْتَ هذا العموم أنَّ صُلْحَ الزوجَيْن علَىٰ ما ذكرنا ـــ خيرٌ من الفُرْقَة.

وقوله تعالى: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } معذرةٌ عن عَبِيدِهِ تعالَىٰ، أي: لا بُدَّ للإنسان بحُكْم خلقته وجِبِلَّتهِ من أنْ يشحَّ على إرادته حتى يَحْمِلَ صاحبه علَىٰ بعض ما يكره، وخصَّص المفسِّرون هذه اللفظة هنا.

فقال ابنُ جُبَيْر: هو شُحُّ المرأة بالنفقة مِنْ زوجها، وبقَسْمه لها أيامَها.

وقال ابن زَيْد: الشحُّ هنا منه وَمِنْها؛

قال * ع *: وهذا حسنٌ.

والشُّحُّ: الضبط على المعتَقَدَاتِ، وفي الهمم، والأموالِ، ونحو ذلك، فما أفرط منه، ففيه بعض المذمَّة، وهو الذي قال تعالَىٰ فيه:وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [الحشر:9] وما صار إلى حيِّزِ مَنْعِ الحقوقِ الشرعيَّة، أو الَّتي تقتضِيَها المروءةُ، فهو البُخْل، وهي رذيلةٌ، لكنها قد تكُونُ في المؤمِنِ؛ ومنه الحديثُ: " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ المُؤْمِنُ بَخِيلاً؟ قَالَ: نَعَمْ " ، وأما الشُّحُّ، ففي كلِّ أحد، وينبغي ألاَّ يفرط إلاَّ على الدِّين؛ ويدلُّك على أنَّ الشُّحَّ في كلِّ أحد قولُهُ تعالى: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } ، وقوله:وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [الحشر:9]، فقد أثبَتَ أنَّ لكل نفسٍ شُحًّا، وقول النبيِّ ـــ عليه السلام ـــ: " وَأَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ " ، وهذا لم يُرِدْ به واحداً بعينه، وليس يجمُلُ أنْ يقال هنا: أنْ تَصَدَّقَ وَأَنتَ صحيحٌ بخيلٌ.

وقوله تعالى: { وَإِن تُحْسِنُواْ }: ندْبٌ إلى الإحسان في تحسين العِشْرة، والصَّبْرِ على خُلُقِ الزوجة، { وَتَتَّقُواْ }: معناه: تتقوا اللَّه في وصيَّته بهنَّ؛ إذ هنَّ عوانٌ عندكم.