الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }

وقوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَٰكَ ٱللَّهُ... } الآية: في هذه الآيةِ تشريفٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتفويضٌ إليه، وتقويمٌ أيضاً على الجادَّة في الحُكْم، وتأنيبٌ مَّا علَىٰ قبولِ ما رُفِعَ إلَيْه في أمْر بَنِي أُبيْرِقٍ بِسُرْعَةٍ.

وقولُهُ تعالى: { بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ }: معناه: علَىٰ قوانينِ الشَّرْعِ إمَّا بوَحْيٍ ونَصٍّ أو نَظَرٍ جارٍ علَىٰ سَنَنِ الوحْي، وقد تضمَّنَ اللَّه تعالَىٰ لأنبيائه العِصْمَةَ.

وقوله تعالى: { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } ، قال الهَرَوِيُّ: { خَصِيماً }: أيْ: مُخَاصِماً، ولا دَافِعاً. انتهى.

قال * ع *: سببها، بٱتفاقٍ من المتأولين: أمْرُ بني أُبَيْرِقٍ، وكانوا إخْوَةً: بِشْرٌ، وبَشِيرٌ، وَمُبَشِّر، وطُعَيْمَةُ، وكان بَشِيرٌ رجلاً منافقاً يهجُو أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وينحل الشِّعْر لغيره، فكان المسلمونَ يَقُولُونَ: واللَّهِ، ما هو إلاَّ شِعْرُ الخَبِيثِ، فقال شعراً يتنصَّل فيه؛ فَمِنْهُ قوله: [الطويل]
أَفِي كُلِّ مَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَة   نُحِلْتُ، وَقَالُوا: ٱبْنُ الأُبَيْرِقِ قَالَهَا
قال قتادةُ بنُ النُّعْمَانِ: وكان بَنُو أُبَيْرِقٍ أهْلَ فَاقَةٍ، فٱبتاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلاً مِنْ دَرْمَكِ الشِّامِ، فجعله في مَشْرُبَةٍ له، وفي المَشْرُبَةِ دِرْعَانِ له، وسَيْفَانِ، فَعُدِيَ على المَشْرُبَةِ من اللَّيْلِ، فلما أصْبَحَ، أتانِي عَمِّي رفاعَةُ، فقال: يَابْنَ أَخِي، أتعلَمُ أنه قَدْ عُدِيَ علَيْنا في لَيْلَتِنَا هذه، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، وذُهِبَ بطَعَامِنَا، وسِلاَحِنا، قال: فتحسَّسْنا في الدَّار، وسألنا، فَقِيلَ لنا: قد رأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ ٱسْتَوْقَدُوا نَاراً في هذه الليلةِ، ولاَ نُرَاهُ إلاَّ علَىٰ بعض طعامِكُمْ، قال: وقد كان بَنُو أُبَيْرِقٍ قالُوا، ونَحْنُ نَسْأَلُ: وَاللَّهِ، مَا نَرَىٰ صَاحِبَكُمْ إلاَّ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ، رَجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاَحٌ وإسْلاَمٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ لَبِيدٌ، فَٱخْتَرَطَ سَيْفَهُ، ثُمَّ أَتَىٰ بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، فَقَالُوا: إلَيْكَ عَنَّا، أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ، مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّىٰ لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يَابْنَ أَخِي، لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخبرتَهُ بِهَذِهِ القِصَّةِ، فأتيتُهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: ٱنْظُرْ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ، فكلَّموه في ذلكَ، وٱجتَمَعَ إلَيْهِ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الدارِ، فأَتَوْا رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ رِفَاعَةَ عَمَدَا إلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمِيَانِهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَىٰ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال قَتَادةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: عَمَدتَّ إلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ، ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ، فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال: فَرَجَعْتُ، وَقَدْ وَدِدتُّ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، فَأَتَيْتُ عَمِّي، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ القُرآن: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ... } الآيات، قال: فالخائِنُونَ: بنو أُبَيْرِقٍ، والبريءُ المَرْمِيُّ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، والطائفةُ التي هَمَّتْ أُسَيْرٌ وأصحابُهُ.

قال * ع *: قال قتادة وغَيْرُ واحدٍ: هذه القصَّة ونحوها إنما كان صاحبُها طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، ويقال فيه: طُعَيْمَةُ.

قال * ع *: وطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِق صرَّح بعد ذلك بالاِرتدادِ، وهَرَبَ إلَىٰ مكَّة، فرُوِيَ أنه نَقَبَ حائطَ بَيْتٍ؛ ليسرقه، فٱنْهَدَمَ الحائطُ عليه، فقَتَلَه، ويُرْوَىٰ أنه ٱتَّبَعَ قوماً من العرب، فسرقهم، فقتلوه.