الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } * { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } * { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ }

قوله تعالى: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ... } الآية، { تَنزِيلُ } رفعُ بالابتداءِ، والخبرُ قوله: { مِنَ ٱللَّهِ } وقالتْ فرقَة: { تَنزِيلُ } خَبَرُ مبتدإ محذوفٍ، تقديرُه: هذا تنزيلٌ، والإشَارَةُ إلى القرآنِ؛ قاله المفسرون، ويظهرُ لِي أَنَّه اسمٌ عامٌ لجميعِ ما تَنَزَّلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فكأنَّه أخْبَرَ إخباراً مجرَّداً أَنَّ الكُتُبَ الهاديةَ الشارِعَة إنما تَنْزيلُهَا من اللَّه تعالَىٰ، وجَعَلَ هذا الإخْبَارَ تَقْدِمَةً وتَوْطِئَةً لقوله: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ }.

وقوله: { بِٱلْحَقِّ } معناه: متضمِّناً الحَقَّ، أي: بالحقِّ فيه، وفي أحْكَامِهِ وأخباره، و { ٱلدِّينَ } هنا يَعُمُّ المُعْتَقَدَاتِ وأعمالَ الجَوَارِحِ، قال قتادة: و { ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ }: «لاَ إلٰهَ إلاَّ اللَّهُ».

وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ... } الآية، أي: يقولون، مَا نَعْبُدُهُمْ إلا ليُقَرِّبُونَا إلى اللَّه زَلْفَىٰ، وفي مصحف ابن مسعودٍ: «قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ» وهي قراءة ابن عبَّاس وغيرِه، وهذه المقالة شائعةٌ في العرب في الجاهلية يقولون في معبوداتِهم منَ الأصْنام وغيرها: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه، قال مجاهد: وقد قال ذلك قومٌ من اليهودِ في عُزَيْرٍ، وقومٌ من النصارَىٰ في عيسَىٰ.

و { زُلْفَىٰ } بمعنى قُرْبَةٍ وتَوْصِلَةٍ، [كأنهم] قَالُوا ليقرِّبونا إلى اللَّه تَقْرِيباً، وكأنَّ هذه الطوائفَ كلَّها تَرَى نُفُوسَها أقلَّ من أن تَتَّصِلَ هي باللَّه، فكانت تَرَىٰ أن تَتَّصِلَ بمخلوقاتِه.

وَ { زُلْفَىٰ } عند سيبَوَيْهِ، مَصْدَرٌ في موضع الحال كأَنَّه تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ «مُتَزَلِّفِينَ» والعاملُ فيه { لِيُقَرِّبُونَا } ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ «كذَّابٌ كَفَّارٌ» بالمبالَغَةِ فيهما، وهذه المبالغةُ إشارةٌ إلى التَوَغُّلِ في الكُفْرِ.

وقوله تعالى: { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } معناه: اتِّخَاذُ التشريفِ والتبنِّي؛ وعلى هذا يستقيمُ قولُه تعالى: { لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ } وأمَّا الاتخاذُ المعهودُ في الشاهدِ فَمُسْتَحِيلٌ أن يُتَوَهَّمَ في جهة اللَّه تعالى، ولا يستقيمُ عليه معنى قوله: { لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ } ، وقوله تعالى:وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم:92] لفظٌ يعمُّ اتخَاذَ النسلِ واتخاذَ الاصطِفاء، فأما الأول فمعقولٌ، وأمَّا الثاني فمعروفٌ بخبر الشرع، ومما يدل على أن مَعْنى قوله: { أَن يَتَّخِذَ } إنما المقصودُ به اتخاذُ ٱصطِفَاءٍ، وَتَبَنٍّ ـــ قولُهُ: { مِمَّا يَخْلُقُ } أي: مِنْ موجوداتِه ومُحْدَثَاتِه ـــ ثم نَزَّهَ سبحانه نفسَه تنزيهاً مطلقاً عن كلِّ ما لاَ يَلِيقُ بهِ سبحانه.

وقوله تعالى: { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ... } الآية، معناه: يُعِيدُ مِنْ هَذَا على هذا، ومنه كُورُ العِمَامَة التي يَلْتَوِي بعضُها على بعض، فكأن الذي يطولُ مِن النهارِ أو الليلِ يصيرُ مِنْه على الآخرِ جُزْءٌ فيستُرُهُ، وكأن الآخرَ الذي يَقْصُرُ يَلِجُ في الذي يَطولُ، فيستَتِرُ فيه.