الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

وقوله تعالى: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } يريد القرآن، وروي عَنِ ابْنِ عبَّاس أن سبَبَ هذه الآيةِ أنَّ قَوْماً من الصحابةِ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا بِأَحَادِيثَ حِسَانٍ، وَأَخْبِرْنَا بِأَخْبَارِ الدَّهْرِ، فنزلَت الآية.

وقوله: { مُّتَشَـٰبِهاً } معناه مُسْتَوِياً لا تَنَاقُضَ فيه ولا تَدَافُعَ، بل يُشْبِهُ بَعْضُهُ بعضاً في رَصْفِ اللَّفْظِ، ووَثَاقَةِ البراهينِ، وشَرَفِ المعاني؛ إذْ هِيَ اليَقِينُ في العقائدِ في اللَّهِ وصفاته وأفعالهِ وشرعهِ، و { مَّثَانِيَ } معناه: مَوْضِعُ تَثْنِيَةٍ للقصَصِ والأقضيةِ والمَوَاعِظِ تُثَنَّىٰ فيهِ ولاَ تُمَلُّ مَع ذلك ولا يَعْرِضُهَا ما يَعْرِضُ الحديثَ المَعَادَ، وقال ابن عباس، ثَنَّىٰ فِيه الأَمْرَ مِرَاراً، ولا ينصرفُ { مَّثَانِيَ } لأنه جمعٌ لا نَظِيرَ له في الواحد.

وقوله تعالى: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } عبارة عَنْ قفِّ شَعْرِ الإنسانِ عندَما يُدَاخِلُهُ خَوْفٌ ولِينُ قَلْبٍ عند سماعِ موعظةٍ أو زَجْرِ قرآن ونحوهِ، وهذه علامةُ وقوعِ المعنى المُخْشِعِ في قلبِ السامعِ، وفي الحديث؛ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قرأ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَقَّتِ الْقُلُوبُ؛ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: " ٱغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ الرِّقَّةِ؛ فإنَّهَا رَحْمَةٌ " وقال العبَّاسُ بن عبد المُطَّلِبِ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنِ ٱقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تعالى، تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا " ، وَقَالَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: «كان أَصْحَابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وتقشعرُّ جلودُهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواماً اليومَ إذا سَمِعوا القرآن خَرَّ أحدُهم مَغْشِياً عليه، فقالت: أعوذُ باللَّهِ من الشيطانِ»، وعن ابن عمر نحوُه، وقال ابن سيرين: بينَنَا وبين هؤلاء الذين يُصْرَعُونَ عند قراءة القرآن أن يُجْعَلَ أحَدُهم عَلى حَائِطٍ [مَادًّا] رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُقْرأُ عَلَيْه القرآن كلُّه، فإن رَمَىٰ بِنَفْسِهِ، فهو صَادِقٌ.

* ت *: وهذا كله تغليظٌ على المُرَائِينَ والمتصنِّعين، ولا خلاف أعلمهُ بين أربابِ القلوبِ وأئمَّةِ التصوُّفِ أن المُتَصَنِّعَ عندهم بهذه الأمور مَمْقُوتٌ، وأما مَنْ غَلَبَه الحالُ لِضَعْفِهِ وقَوِيَ الوارِدُ عليه حتَّىٰ أذْهَبَهُ عَنْ حِسِّه؛ فهو إن شاء اللَّهُ مِن السادةِ الأخْيارِ والأولياء الأبرار، وقَد وَقَعَ ذلك لكثير من الأخْيارِ يَطُولُ تَعْدَادُهم؛ كابن وهب وأحمد بن مُعَتِّبٍ المالكيَّيْنِ، ذكرهما عياض في «مداركه»، وأنهما ماتا من ذلك؛ وكذلك مالك بن دينار ماتَ مِنْ ذلك؛ ذكره عبد الحَقِّ في «العاقبة»، وغيرهم ممن لا يَحصَىٰ كثرةً، ومن كلام عزِّ الدين بن عَبْدِ السَّلامِ ـــ رحمه اللَّه ـــ في قواعده الصُّغْرَىٰ قال: وقَدْ يَصِيحُ بَعْضُهُمْ لِغَلَبَةِ الحَالِ عَلَيْهِ، وَإلْجَائِهَا إِيَّاهُ إلى الصِّيَاحِ، وهو في ذلك مَعْذُورٌ، ومَنْ صَاحَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمُتَصَنِّعٌ لَيْسَ مِنَ القَوْمِ في شَيْءٍ، وكذلِكَ من أظهر شيئاً من الأحوال رياءً أو تسميعاً، فإنه ملحَقٌ بالفجَّار دونَ الأبْرَارِ، انتهى.

السابقالتالي
2