وقوله تعالى: { فَرَاغَ إِلَىٰ ءَالِهَتِهِمْ } «راغ» معناه: مَالَ.
وقوله: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } هو على جِهَةِ الاسْتِهْزَاءِ بِعَبَدَةِ تلكَ الأصْنَامِ، ثم مَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى ضَرْبِ تلك الأصْنامِ بِفَأْسٍ حَتَّى جَعَلَها جُذَاذاً، واخْتُلِفَ في معنى قوله: { بِٱلْيَمِينِ } فقال ابن عَبَّاس: أراد يُمْنَىٰ يَدَيْهِ، وَقِيلَ: أرادَ بِقُوَّتِه؛ لأنَّه كانَ يَجْمَعُ يَدَيْهِ مَعاً بِالفَأْسِ، وقيل: أراد باليمينِ، القَسَمَ في قوله:{ وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ } [الأنبياء:57] والضميرُ في «أقبلوا» لكُفَّارِ قَوْمِهِ و { يَزِفُّونَ } معناه: يُسْرَعُونَ، وٱخْتَلَفَ المتأَوِّلُونَ في قوله: { وَمَا تَعْمَلُونَ } فَمَذْهَبُ جماعةٍ من المفسرين: أن «ما» مصدرية، والمعنى: أنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وأَعْمَالَكُمْ، وهذه الآيةُ عندهُمْ قَاعِدَةٌ في خَلْقِ اللَّهِ تعالَىٰ أفْعَالَ العِبَادِ؛ وهو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وقالت فرقة: «ما» بمعنى: الّذِي، «والبنيان» قيل: كانَ في مَوْضِع إيقَادِ النَّارِ، وقيل: بَلْ كَان لِلْمَنْجَنِيقِ الذي رُمِي عَنْه، واللَّه أعلم.
وقوله: { إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى... } الآية، قالتْ فرقة: كان قولُهُ هذا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وأنَّه أَشَارَ بِذَهَابِهِ إلَىٰ هِجْرَتِهِ مِنْ [أَرْضِ] بَابِلَ؛ حَيْثُ كَانَتْ مملكةُ نُمْرُودَ، فَخَرَجَ إلى الشَّامِ، وقالت فِرْقَةٌ: قال هذه المقالةَ قَبْلَ أنْ يُطْرَحَ فِي النَّارِ؛ وإنما أراد لِقَاءَ اللَّهِ؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّ النَّارَ سَيَمُوتُ فِيها، وقال: { سَيَهْدِينِ } أي: إلى الجَنَّةِ؛ نَحَا إلَىٰ هذَا المَعْنَىٰ قتادةُ، قال * ع *: وللعارفينَ بهذَا الذَّهَابِ تَمَسُّكٌ واحْتِجَاجٌ في الصَّفَاءِ، وهُو مَحْمَلٌ حَسَنٌ في { إِنِّى ذَاهِبٌ } وحْدَهُ، والتأويلُ الأولُ أظْهِرَ في نَمَطِ الآيةِ، بما يأتي بَعْدُ؛ لأنَّ الهدايةَ مَعَهُ تَتَرَتَّبُ، والدُّعَاءُ في الوَلَدِ كذلك، ولاَ يَصِحُّ مَعَ ذَهَابِ المَوْتِ، وباقي الآيةِ تَقَدَّمَ قَصَصُهَا، وأَنَّ الراجحَ أنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ، وذَكَرَ الطبريُّ أنَّ ابن عباس قال: الذبيحُ، إِسماعيل، وتَزْعُمُ اليهودُ أنَّهُ إسْحَاقُ، وكَذَبَتِ اليهُودُ، وذُكِرَ أيضاً أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَجُلاً يهوديًّا كانَ أسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، فَقَال: الذَّبِيحُ هُوَ إسْمَاعِيلُ، وإن اليهودَ لَتَعْلَمُ ذلكَ، ولكنهمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ: أنْ تَكُونَ هٰذِهِ الآيَاتُ وَالْفَضْلُ وَاللَّهِ في أَبِيكُمْ، والسَّعْيُ في هذه الآيةِ: العَمَلُ والعبادةُ والمَعُونَةُ، قاله ابن عَبَّاسٍ وغيرُهُ، وقال قتادةُ: السَعْيُ على القَدَمِ يريدُ سَعْيَاً مُتَمَكِّنِاً، وهذا في المعنَىٰ نَحْوُ الأوَّلِ.
وقوله: { إِنِّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ... } الآية، يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ رَأَىٰ ذلِكَ بِعَيْنِهِ؛ ورُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ، وعُيِّنَ لَهُ وقتُ الامْتِثَالِ، ويُحْتَمَلُ أنَّه أُمِرَ في نومِه بِذَبْحِهِ، فَعبَّر عَنْ ذلكَ بقوله: { إِنِّى أَرَىٰ } أي: أرى ما يوجبُ أنْ أذْبَحَكَ، قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه»: واعلم أن رُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ فَمَا أُلْقِيَ إليهم، ونَفَثَ بهِ المَلَكُ في رُوعِهِمْ، وضَرَبَ المثَلَ لَه عَلَيْهِم ـــ فَهُو حَقٌّ؛ ولذلكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أنَّهُ يُنْزلُ فِيَّ قُرْآنٌ يُتْلَىٰ، ولٰكِنِّي رَجَوْتُ أنْ يَرَىٰ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حقيقةَ الرُّؤيا، وأن البَارِيَ ـــ تعالىٰ ـــ يَضْرِبُهَا مثَلاً للناسِ، فمنها أسماءٌ وكُنًى، ومنها رُؤْيَا تَخْرُج بِصِفَتِهَا، ومنها رُؤيا تَخْرُجُ بتأويلٍ، وهُوَ كُنْيَتُهَا. ولما اسْتَسْلَمَ إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ ـــ عليهما السلام ـــ لقضاءِ اللَّهِ، أُعْطِيَ إبراهيمُ ذَبِيحاً فِدَاءً، وقيل له: هذا فداءُ وَلَدِكَ، فامْتَثِلْ فِيه مَا رَأَيْتَ؛ فإنَّه حقيقةُ مَا خاطبناك فيه، وهُو كِنَايَةٌ لاَ ٱسْمٌ، وجَعَلَهُ مُصَدِّقاً للرؤيا بمبادَرةِ الامْتِثَال، انتهى.