وقوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا... } الآيةُ: { أَوْرَثْنَا } معناه: أعطيناه فرقةً بعد، موتِ فرقةٍ و { ٱلْكِتَـٰبَ } هنا يريد به: معانيَ الكتابِ، وعلمَه، وأحكامَه، وعقائدَه، فكأن اللّهَ تعالى لمّا أعطى أمَة محمد صلى الله عليه وسلم القرآنَ؛ وهو قد تضمَّن معانيَ الكُتُبِ المنزَّلةِ قَبْلَه؛ فكأنه وَرَّثَ أمَّة محمد الكتابَ الذي كان في الأمم قبلَها. قال ابْنُ عَطَاءَ اللّه في «التنوير»: قال الشيخ أبو الحسنِ الشاذليُّ ـــ رحمه اللّه تعالى ـــ: أَكْرِمِ المؤمنين؛ وإن كانوا عصاةً فاسقينَ، وَأَمْرُهُمْ بالمعروف، وٱنْهَهُمْ عن المنكر، وٱهْجُرْهم رحمة بهم؛ لا تعزُّزاً عليهم، فلو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي، لَطَبَّقَ السماءَ والأرض، فما ظنَّك بنورِ المؤمِن المطبعِ، ويكفيكَ في تعظيم المؤمنين ـــ وإن كانوا عن اللّه غافلينَ ـــ قولُ ربِّ العالمينَ: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } فانظر كيف أثبت لهم الاصطفاءَ مع وجود ظلمِهم، واعلم أنّه لا بد في مملكتِه من عبادٍ هُمْ نصيبُ الحِلْم، ومحلُّ ظهورِ الرحمةِ والمغفرةِ، ووقوعِ الشفاعةِ، انتهى. و { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا } يريد بهم أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله ابن عباس وغيره. و { ٱصْطَفَيْنَا } معناه: اخترنا وفضَّلنا، والعبادُ عامُّ في جميع العَالم، واخْتُلِفَ في عَوْدِ الضمير من قوله: { فَمِنْهُمْ } فقال ابن عباس وغيره؛ ما مقتضاه: أن الضمير عائدٌ على { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا } وإن الأصنَافَ الثلاثةَ هِي كلُّها فِي أمة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فالظالمُ لنفسِه: العاصي المسرفُ، والمقتصدُ: متقي الكبائرِ، وَهُمْ جمهور الأمَّة، والسَّابق: المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة: الأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري والضمير في { يَدْخُلُونَهَا } عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة رضي اللّه عنها وكعب رضي اللّه عنه: دخلوها كلُّهمْ ورَبِّ الكَعْبَة وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلُّهم ناجٍ. وقال ابن مسعود: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلثٌ: يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث: يحاسبون حساباً يسيراً؛ ثم يدخلون الجنة، وثلث: يجيئون بذنوب عظام؛ فيقولُ اللّهُ ـــ عز وجل ـــ: ما هؤلاء؟ ـــ وهو أعلم بهم ـــ فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا؛ فيقول ـــ عز وجل ـــ أدخلوهم في سعة رحمتي. " وروى أسامة بن زيد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَـٰذِهِ الآيَةَ وَقَالَ: «كُلُّهُمْ في الجَنَّةِ» " وقرأ عُمَرُ هذه الآية، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " سابِقُنَا سَابِقٌ، ومُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُور له " ؛ وقال عكرمة والحسن وقتادة؛ ما مقتضاه: أن الضمير في { مِنْهُم } عائدٌ على العباد فالظَّالِم لنفسه: الكافرُ، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى:{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَـٰثَةً } [الواقعة:7] الآية. والضمير في { يَدْخُلُونَهَا } على هذا التأويل خاصٌّ بالمُقْتَصِد والسابقِ، وباقي الآية بيِّن، و { ٱلْحَزَنَ } في هذه الآية عامٌ في جميع أنواع الأحزان وقولهم: { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } وصفوه سبحانه بأنه يغفر الذنوبَ، ويجازي على القليلِ من الأعمال بالكثير من الثوابِ، وهذا هو شكره. لا ربَّ سواه، و { دَارَ ٱلْمُقَامَةِ }: الجنة، و { ٱلْمُقَامَة }: الإقامةُ و«النَّصَبُ»: تعب البَدَنِ و«اللغوب»: تَعَبُ النَّفْسِ اللازمُ عن تعبِ البَدَنِ.