الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ }

وقَوْلُه تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ... } الآيةَ. رُوِيَ عَن ابن عبَّاسٍ وَابنِ مَسْعُودٍ فِي قَصَصِ هذهِ الآيةِ كَلاَمٌ طَوِيلٌ، حَاصِلُه: أنَّ سُلَيمَانَ عليه السلامُ لَمَّا أحَسَّ بِقُرْبِ أجَلهِ؛ اجْتَهَدَ ـــ عليه السلامُ ـــ وجَدَّ فِي العِبَادَةِ؛ وَجَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ له إلاَّ مُدَّةٌ يَسِيرَة.

قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ عند ذلك: اللَّهُمَّ، عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي؛ حَتَّىٰ يعلم الإِنْسُ أَنَّ الجِنَّ لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ, وكَانَتِ الجِنُّ تُخْبِرُ الإِنْسَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِن الغَيْبِ أَشياءَ، وأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِي غَدٍ، وَلَمَّا أَعْلَمَهُ مَلَكُ المَوْتِ بِقُرْبِ الأَجَلِ؛ أَمَرَ حِينَئِذٍ الْجِنَّ، فَصَنَعَتْ لَهُ قُبَّةً مِنْ زُجَاجٍ تَشِفُّ؛ وَدَخَلَ فِيهَا يَتَعَبَّدُ؛ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا بَاباً، وَتَوَكَّأَ عَلَىٰ عَصَاهُ عَلَى وَضْعٍ يَتَمَاسَكُ مَعَهُ. وَإنْ مَاتَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ ـــ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـــ عَلَىٰ تِلْكَ الحَالَةِ، فَلَمَّا مَضَىٰ لِمَوْتِهِ سَنَةً، خَرَّ عَنْ عَصَاهُ، وَالْعَصَا قَدْ أَكَلَتْهَا الأَرْضَةُ؛ وَهِيَ الدُّودَةُ الَّتِي تَأْكُلُ العُودَ؛ فَرَأَتِ الجِنُّ ٱنْخِرَارَهُ فَتَوَهَّمَتْ مَوْتَهُ؛ «والمِنْسَأَة»: العَصَا، وَقَرأ الجمهور: { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } بِإسْنَادِ الفعلِ إلَيْها، أي: بَانَ أَمْرُهَا، كَأَنَّهُ قال: افْتُضِحَتِ الجِنّ، أي: للإِنْسِ، هذا تَأَوِيلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَولُه: { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } بِمَعْنَى: عَلِمَتِ الجِنُّ وَتَحَقَّقَتْ، وَيُرِيدُ بِالجِنِّ: جُمْهُورَهُمْ؛ والخَدَمَةَ مِنْهُمْ، ويُرِيدُ بالضَّمِيرِ فِي { كَانُوا }: رُؤَسَاءَهُمْ وَكِبَارَهُمْ لأَنَّهُمْ هُمُ الذينَ يَدَّعُونَ عِلْمَ الغَيْبِ لأَتْبَاعِهِم من الجِنِّ والإنسِ.

وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: «تبينت الجن» عَلَى بِنَاءِ الفعلِ للمَفْعُولِ، أي: تبيَّنَهَا الناسُ، و { ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ }: ما هم فيه من الخِدْمَةِ والتَسْخِيرِ وغير ذلك، والمعنى: أنَّ الجِنَّ لَوْ كَانَتْ تَعْلَم الغَيْبَ لَمَا خَفِي عَلَيْهَا مَوْتُ سُلَيْمَانَ؛ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهَا بِدَوَامِها فِي الخِدْمَةِ الصَّعْبَةِ، وَهُوَ مَيِّتٌ فـ { ٱلْمُهِينِ } المُذِلُّ، مِن الهَوَانِ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: أنَّ الشياطينَ قَالَتْ لِلأَرْضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ لأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ، ولَكِنَّا سَنَنْقُلُ إلَيكِ الماءَ والطِّين؛ فَهُمْ يَنْقُلُونَ إلَيها ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ شُكْراً لَهَا انتهى.