الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } * { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } * { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } * { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } * { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً }

وقوله سبحانه: { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي: من المنافقين { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي: لا موضعَ قيام ومُمَانَعة، فارْجِعوا إلى منازِلكم وبيوتِكم، وكان هذا على جِهَة التخذيل عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، والفريقُ المتسأذِنُ هو أوسُ بن قيظي؛ استأذنَ في ذلك على اتِّفَاقِ من أصحابهِ المنافقين؛ فقالَ: { إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أيْ: مُنْكَشِفَة للعدو فأكذَبَهم اللّه - تعالى - ولو دخلت المدينة { مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي: من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سُئِلوا الفتنةَ والحَرْبَ لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يَتَلَبَّثُوا في بُيوتهم لحفظها إلاَّ يسيراً.

قيل: قَدْرَ ما يأخذون سلاحَهم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا اللّه إثْر أُحُدٍ لاَ يُولُّونَ الأدْبَارَ وفي قوله تعالى: { وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْؤُولاً } تَوَعُّدٌ وباقي الآية بَيِّن. ثم وبَّخَهُمْ بقوله: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } وهم الذين يُعَوِّقُونَ الناسَ عن نُصْرة الرسولِ ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويَسْعَوْنَ على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هَلُمَّ إلينا فقال ابن زيد وغيره: أراد من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النَّسَب وقَرَابته هلُم، أَي: إلى المنَازِل والأكل والشربِ، واترك القتالَ. ورُوِيَ: أَنَّ جماعةً فَعَلَتْ ذلك وأصلُ { هَلُمَّ }: ها المم. وهذا مِثْلُ تعليل «رَدَّ» من «ارْدُدْ» والبأسُ: القتالُ: و { إِلاَّ قَلِيلاً } معناه إلا إتياناً قليلاً، و { أَشِحَّةً } جمع شَحِيحٍ والصَّوَابِ تَعْمِيمُ الشُّحِّ أنْ يكون بِكُلّ ما فيه للمؤمنين منفعة.

وقوله: { فَإِذَا جَاءَ ٱلْخَوْفُ } قيل: معناه: فإذا قوي الخوفُ رأيتَ هؤلاءِ المنَافقين ينظرونَ إليك نَظَرَ الهَلِعِ المُخْتَلِطِ؛ الذي يُغْشَى عَليه، فإذا ذهب ذلك الخوفُ العظيمُ وَتَنَفَّسَ المختَنِقُ: { سَلَقُوكُم } أي: خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال: خطيب سَلاَّقٌ ومِسْلاَقٌ ومِسْلَقٌ ولِسَان أيضاً كذلك إذا كان فصيحاً مقتدراً ووصف الألسِنة بالحدّة لقَطْعِها المعاني ونفوذِها في الأقوال، قالت فرقةٌ: وهذا السَّلْقُ هو في مخادعةِ المؤمنِين بما يُرْضيهِم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة.

وقوله: { أَشِحَّةً } حال من الضمير في { سَلَقُوكُم }.

وقوله: { عَلَى ٱلْخَيْرِ } يدل على عموم الشح في قوله أولاً: { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } وقيل: المراد بالخير: المال، أي: أشحة على مال الغنائِم، واللّه أعلم. ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهورُ المفسرينَ على أن هذه الإشارةَ إلى منافقينَ لم يكن لهم قط إيمان، ويكونُ قولهُ: { فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي: أنها لم تُقْبَل قط، والإشارة بذلك في قوله { وَكَانَ ذَٰلِكَ } إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضميرُ في قوله: { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ } للمنافقين، والمعنى: أنهم من الفزع والجزع بحيثُ رَحَلَ الأحزابُ وهزمهَم اللّه تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخُدَعِ؛ وأنَّهم لم يَذْهَبوا، { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } ، أي: يرجعوا إليهم كرةً ثانية { يَوَدُّواْ } من الخوف والجبن { لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ } أي: خارجون إلى البادية.

السابقالتالي
2