الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } * { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } * { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } * { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }

وقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ... } الآيات إلى قوله تعالى:يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوٰجِكَ } [الأحزاب:28] نزلتْ في شأنِ غزوةِ الخندقِ، وما اتَّصَلَ بها مِن أمر بني قُرَيْظَةَ، وذلك أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أَجْلَىٰ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ عِنْدَ المَدِينَةِ إلَىٰ خَيْبَر، فاجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ اليَهُودِ، وَخَرَجُوا إلَىٰ مَكَّةَ مُسْتَنْهِضِينَ قُرَيْشاً إلَىٰ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَسَّرُوهُمْ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَأَزْمَعَتْ قُرَيْشُ السَّيْرَ إلَى المَدِينَةِ، وَنَهَضَ اليَهُودُ إلَىٰ غَطَفَانَ، وبَنِي أَسَدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وتِهَامَةَ، فَٱسْتَنْفَرُوهُمْ إلَىٰ ذَلِكَ وَتَحَزَّبُوا وَسَارُوا إلَى المَدِينَةِ، وَٱتَّصَلَ خَبَرُهُمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَفَرَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، وَحَصَّنَهَا، فَوَرَدَتِ الأحْزَابُ، وحَصَرُوا المدينةَ، وذلك في شَوَّال سنة خمسٍ، وقيل: أرْبَعٍ مِن الهجرةِ، وكانت قريظة قَدْ عَاهَدُوا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَاقدوه أَلاَّ يَلْحَقَهُ منهم ضَرَرٌ، فلمَّا تمكَّن ذلك الحِصَارُ، ودَاخَلَهم بَنُو النضيرِ غَدَرُوا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وَنَقَضُوا عهده، وضاق الحال على المؤمنين، ونَجَمَ النفاقُ وساءَت ظُنُون قَوْمٍ، ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مع ذلك يُبَشِّرُ وَيَعِدُ النَّصْرَ، فألقَى اللّه عز وجل الرُّعْبَ في قُلوب الكافرينَ، وتخاذلوا ويَئِسوا من الظَّفْرِ، وأرسل اللّه عليهم ريحاً وهي الصَّبَا، وملائكةً تُسَدِّدُ الرِّيحَ، وتفعل نحو فعلها، وتُلْقِي الرُّعْبَ في قلوب الكفرةِ، وهي الجنودُ التي لَم تُرَ، فارتَحَلَ الكَفَرَةُ وانقلبوا خائبين.

قوله تعالى: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } يريد: أهل نَجْدٍ مع عيينة بن حِصْن { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ }: يريد أهل مكة وسائر تِهَامَة قاله مجاهد: { وَزَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ } معناه مَالَتْ عن مواضِعَها وذلك فِعْلُ الوالِه الفزِع المُخْتَبِلِ. { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } عبارة عَمّا يَجِدُهُ الهَلِعُ من ثَوَرَانِ نَفْسِه وتفرقها ويجد كأَنَّ حُشْوَتَهُ وَقَلْبَهُ يَصَّعَّدُ عُلُوّاً، وَرَوَى أبو سعيد أن الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا يَوْمَ الخَنْدَق: يَا نَبِيَّ اللّه، بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ؛ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ قُولُوا: " اللَّهُمَّ، ٱسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا " فَقَالُوهَا؛ فَضَرَبَ اللّهُ وُجُوهَ الكُفَّارِ بِالرِّيحِ فَهَزَمَهُمْ.

وقوله سبحانه: { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ... } الآية: عبارةٌ عن خواطر خطرَتْ للمؤمنين لا يمكن البشرَ دفعُها، وأما المنافِقونَ فنَطَقُوا، ونَجَمَ نفاقُهم. و { ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } معناه: اخْتُبِرُوا { وَزُلْزِلُواْ }: مَعْنَاه: حُرِّكُوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمَرْضَى القلوبِ؛ على جِهَةِ الذَّمِّ لَهُمْ { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } فَرُوِيَ عَنْ يزِيدَ بْنِ رُومَانَ أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ قال: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أن نَفْتَتِحَ كنوز كِسْرَى وقيصر ومكة؛ ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط؛ ما يعدنا إلا غروراً، وقال غيره من المنافقين نحو هذا.