الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } * { بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ... } الآية: أخبر تعالَىٰ عن أهْل الكتاب؛ أنهم قسْمَانِ في الأمانةِ، ومَقْصِدُ الآية ذمُّ الخَوَنَةِ منْهم، والتفنيدُ لرأيهم وكَذِبِهِمْ على اللَّه في ٱستحلالهم أموالَ العَرَبِ. قال الفَخْرَ وفي الآية ثلاثةُ أقوال:

الأول: أنَّ أهل الأمانةِ منهم الَّذين أسْلَمُوا، أمَّا الذين بَقُوا عَلَى اليهوديَّة، فهم مصرُّون عَلَى الخيَانَة؛ لأن مذهبهم أنَّه يحلُّ لهم قَتْلُ كلِّ من خالفهم في الدِّينِ، وأَخْذُ ماله.

الثَّاني: أنَّ أهل الأمانة منهم هم النصارَىٰ، وأهل الخيانة هم اليهودُ.

الثالث: قال ابنُ عَبَّاس: أوْدَعَ رجلٌ عبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ أَلْفاً ومِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فأدَّى إلَيْه، وأودَعَ آخَرُ فِنْحَاصاً اليهوديَّ ديناراً، فخانه، فنزلَتِ الآية. اهـــ.

قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامِهِ»: قال الطبريُّ: وفائدةُ هذه الآيةِ النهْيُ عن ٱئتمانِهِمْ علَىٰ مالٍ، وقالَ شيْخُنا أبو عبدِ اللَّهِ المغربيُّ: فائدتُها ألاَّ يؤُتَمَنُوا علَىٰ دِينٍ؛ يدُلُّ عليه ما بعده في قوله: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِٱلْكِتَـٰبِ } ، والصحيحُ عندي: أنها في المالِ نصٌّ، وفي الدِّينِ تنبيهٌ، فأفادَتِ المعنيين بهذَيْنِ الوجهَيْنِ. قال ابنُ العربيِّ: فالأمانةُ عظيمةُ القَدْرِ في الدِّينِ، ومن عظيمِ قَدْرها أنها تقفُ على جَنَبَتَيِ الصِّراطِ لا يُمَكَّنُ من الجواز إلا مَنْ حفظها، ولهذا وجَبَ علَيْكَ أن تؤدِّيها إلَىٰ من ٱئتمنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خانك، فتقابل المعْصِيَةَ بالمَعْصية؛ وكذلك لا يجوزُ أنْ تَغْدُرَ مَنْ غَدَرَكِ. قال البخاريُّ: باب إثْمِ الغَادِرِ للْبَرِّ والفَاجِرِ. اهـــ.

والقِنْطَارُ؛ في هذه الآية: مثالٌ للمالِ الكَثيرِ، يَدْخُلُ فيه أكثر من القِنْطَارِ وأقلُّ، وأَمَّا الدينار، فيحتملُ أنْ يكون كذلك مثالاً لما قَلَّ، ويحتملُ أنْ يريد أنَّ منهم طبقةً لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يُعْنَ لذكْرِ الخائنَين في أقَلَّ؛ إذ هم طَغَامٌ حُثَالَةٌ، ودَامَ: معناه: ثَبَثَ.

وقوله: { قَائِمَاً }: يحتملُ معنيين: قال قتادة، ومجاهد، والزَّجَّاج: معناه: قَائِماً على اقتضاءِ حَقِّك، يريدون بأنواع الاقتضاءِ من الحَفْزِ والمُرَافَعَةِ إلى الحاكِمِ مِنْ غَيْر مراعاة لهيئة هذا الدِّائِم.

وقال السُّدِّيُّ وغيره: معنَىٰ قَائِماً: عَلَىٰ رأسه.

وقوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِينَ سَبِيلٌ } الآية: الإشارة بـــ «ذَلِكَ» إلى كونهم لا يؤدُّون الأمانة، أي: يقولون نحن من أهل الكتاب، والعرب أُمِّيُّونَ أَصْحَابُ أوثانٍ، فأموالهم لنا حلالٌ، متَىٰ قَدَرْنا على شيْءٍ منها، لا حُجَّة عَلَيْنَا في ذلك، ولا سبيلَ لمعترضٍ.

وقوله تعالى: { وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ذمٌّ لبني إسرائيل بأنهم يَكْذِبُونَ علَى اللَّه سبحانه في غير مَا شَيْءٍ، وهم عَالِمُونَ بمواضعِ الصِّدْق.

قال * ص *: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ }: جملةٌ حاليَّةٌ. اهـــ.

ثم ردَّ اللَّه تعالَىٰ في صَدْر قولهم: { لَيْسَ عَلَيْنَا }؛ بقوله: { بَلَىٰ }؛ أي: عليهم سبيلٌ، وحُجَّةٌ، وتِبَاعَةٌ، ثُمَّ أخبر؛ علَىٰ جهة الشرط؛ أنَّ مَنْ أوفَىٰ بالعَهْد، وٱتَّقىٰ عقُوبةَ اللَّهِ في نَقْضه، فإنه محبوبٌ عند اللَّه.

السابقالتالي
2