الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

وقوله تعالى: { فَنَادَتْهُ } عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع به، ويُنهَىٰ إِلى نفس السامعِ ليسرَّ به، فلم يكُنْ هذا في الملائكةِ إِخباراً علَىٰ عرف الوحْيِ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ.

وقوله تعالى: { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } ، يعني: بـ «المِحْرَابِ»؛ في هذا الموضعِ: موقفَ الإِمامِ من المسجدِ، ويَحْيَـى: ٱسمٌ سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ، و { مُصَدِّقًا } نصْبٌ على الحال، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمةُ هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.

قال * ع *: وسَمَّى اللَّه تعالَىٰ عِيسَىٰ كلمةً، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالَىٰ، وهي «كُنْ»، لا بسبب إِنسان.

وقوله تعالى: { وَسَيِّداً }: قال قتادة: أيْ: واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ والوَرَعِ.

قال * ع *: مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ والتقى ونحوه، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ، وقد تحصَّل العلْم ليحيـى ـ عليه السلام ـ بقوله: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } ، وتحصَّل التقَىٰ بباقِي الآية، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاِعتمالُ في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ، وتفصيلُهُ أن يقالَ: بذل الندى، وهذا هو الكَرَمُ، وكَفُّ الأَذَىٰ، وهنا هي العفةُ بالفَرْج، واليَدِ، وَاللِّسان، وٱحتمالُ العظائم، وهنا هو الحِلْمُ وغيرُهُ مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ، وجَبْرِ الكَسِيرِ، والإفضالِ على المُسْتَرْفد، وٱنْظُرْ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلاَ فَخْرَ " ، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ، وذلك منه ٱعتمالٌ في رِضَا ولد آدم، ثم:

قال * ع *: أما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه، وهكذا كان يَحْيَـىٰ ـ عليه السلام ـ.

وقوله تعالى: { وَحَصُوراً } أصل هذه اللفظة: الحَبْسُ والمَنْعُ، ومنه: حصر العدو.

قال * ع *: وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين علَىٰ أنَّ هذه الصفة ليَحْيَـىٰ ـ عليه السلام ـ إِنما هي الاِمتناعُ من وطْءِ النِّسَاءِ إِلاَّ ما حكَىٰ مكِّيٌّ من قول من قَالَ: إِنه الحُصُور عن الذنوب، وذهب بَعْضُ العلماءِ إِلَىٰ أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه؛ تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ، قالوا: وهذه أمْدَحُ له، قال الإِمام الفَخْر: وهذا القولُ هو ٱختيارُ المحقِّقين؛ أنه لا يأتِي النِّساء، لا للعَجْز، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد.

قلْتُ: قال عِيَاضٌ: ٱعْلَمْ أنَّ ثناء اللَّه تعالَىٰ علَىٰ يَحْيَـىٰ ـ عليه السلام ـ؛ بأنه حَصُورٌ، ليس كما قال بعضْهم: إِنه كان هَيُوباً أو لا ذَكَرَ لَهُ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين، ونُقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصةٌ وعَيْب، ولا تليقُ بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ، وإِنما معناه: معصومٌ من الذُّنُوب، أي: لا يأتيها؛ كأنه حُصِرَ عنها، وقيل: مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل: ليستْ له شهوةٌ في النساءِ؛ كفَايَةً من اللَّه له؛ لكونها مَشْغَلَةً في كثير من الأوقات، حاطَّة إِلى الدنيا، ثم هي؛ في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها، وقام بالواجب فيها، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ ـ درجةٌ عُلْيَا، وهي درجةُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، أيْ: وسائرِ النبيِّين.

السابقالتالي
2 3