* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق
وقوله تعالى: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }: الوضْعُ: الولادةُ، وقولها: { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ }: لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } ، وقولها: { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } ، تريد في ٱمتناعِ نَذْرها؛ إِذ الأنثَىٰ تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان، قاله قتادة وغيره، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول: وليس الأنثَىٰ كالذَّكَر، وفي قولها: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ }: سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ؛ ونحوُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِٱسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " ، وباقي الآيةِ إعاذةٌ، قال النووي: ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ؛ بإسناد جيِّدٍ، عن أبي الدرداء، عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْمَاءَكُمْ " وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن ٱبْنِ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ " وفي سنن أبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيّ، وغيرِهِمَا، عن أبِي وَهْب الجُشَمِيِّ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ عبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ ومُرَّة " اهـ.
وفي الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة، قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ٱبْنَةِ عِمْرَانَ، وٱبْنِهَا؛ فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعْتَها: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ، فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الحَجابِ " ، وَقَدِ ٱخْتلفت ألفاظُ هذا الحديثِ، والمعنىٰ واحد؛ كما ذكرته، قال النوويُّ: بَاب مَا يُقَالُ عنْد الولادةِ: رُوِّينَا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ، عن فاطمة (رضي اللَّه عنها)؛ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لمَّا دَنَا ولاَدَهَا، أَمَر أُمَّ سَلْمَة، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ؛ أنْ تَأْتِيَاهَا، فَتَقْرَآ عِنْدَهَا آيَةَ الكُرْسيِّ، و { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ... } إلى آخر الآيَةِ، وتُعَوِّذَانِهَا بِالمُعَوِّذَتَيْنِ«. انتهى.
وقوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ }: إخبار منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد؛ كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسَنَّىٰ لها الأمَلَ في ذلك.
وقوله سبحانه: { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً }: عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ.
* ص *: { بِقَبُولٍ } مصدر علَىٰ غير الصَّدْرِ، والجاري علَىٰ: تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً، وعلى قَبِلَ قَبُولاً، و { نَبَاتاً }: مصدرٌ منصوبٌ بـــ «أَنْبَتَهَا»؛ علَىٰ غير الصَّدْر. انتهى.
وقوله تعالى: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } معناه: ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ، والكَافِلُ: هو المربِّي، قال السُّدِّيُّ وغيره: إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها؛ وَيَعْضُدُ هذا القوْلَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في يَحْيَـىٰ وعِيسَىٰ: «ٱبْنَا الخَالَةِ»، والذي عليه النَّاس: أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ؛ لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر.