الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } * { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } * { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ }

وقوله تعالى: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }: الوضْعُ: الولادةُ، وقولها: { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ }: لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } ، وقولها: { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } ، تريد في ٱمتناعِ نَذْرها؛ إِذ الأنثَىٰ تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان، قاله قتادة وغيره، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول: وليس الأنثَىٰ كالذَّكَر، وفي قولها: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ }: سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ؛ ونحوُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِٱسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " ، وباقي الآيةِ إعاذةٌ، قال النووي: ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ؛ بإسناد جيِّدٍ، عن أبي الدرداء، عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْمَاءَكُمْ " وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن ٱبْنِ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ " وفي سنن أبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيّ، وغيرِهِمَا، عن أبِي وَهْب الجُشَمِيِّ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ عبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ ومُرَّة " اهـ.

وفي الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة، قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ٱبْنَةِ عِمْرَانَ، وٱبْنِهَا؛ فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعْتَها: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ، فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الحَجابِ " ، وَقَدِ ٱخْتلفت ألفاظُ هذا الحديثِ، والمعنىٰ واحد؛ كما ذكرته، قال النوويُّ: بَاب مَا يُقَالُ عنْد الولادةِ: رُوِّينَا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ، عن فاطمة (رضي اللَّه عنها)؛ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لمَّا دَنَا ولاَدَهَا، أَمَر أُمَّ سَلْمَة، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ؛ أنْ تَأْتِيَاهَا، فَتَقْرَآ عِنْدَهَا آيَةَ الكُرْسيِّ، و { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ... } إلى آخر الآيَةِ، وتُعَوِّذَانِهَا بِالمُعَوِّذَتَيْنِ«. انتهى.

وقوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ }: إخبار منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد؛ كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسَنَّىٰ لها الأمَلَ في ذلك.

وقوله سبحانه: { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً }: عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ.

* ص *: { بِقَبُولٍ } مصدر علَىٰ غير الصَّدْرِ، والجاري علَىٰ: تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً، وعلى قَبِلَ قَبُولاً، و { نَبَاتاً }: مصدرٌ منصوبٌ بـــ «أَنْبَتَهَا»؛ علَىٰ غير الصَّدْر. انتهى.

وقوله تعالى: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } معناه: ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ، والكَافِلُ: هو المربِّي، قال السُّدِّيُّ وغيره: إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها؛ وَيَعْضُدُ هذا القوْلَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في يَحْيَـىٰ وعِيسَىٰ: «ٱبْنَا الخَالَةِ»، والذي عليه النَّاس: أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ؛ لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر.

السابقالتالي
2