الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }

وقوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً }: الَّذِينَ: في موضع خفضٍ صفَة لـ { أُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ } ، وهذا وصف ظاهره استعمالُ التحميدِ والتَّهْليلِ والتَّكْبير ونَحْوه مِنْ ذكر اللَّه، وأنْ يحضر القلب اللسان؛ وذلك من أعْظَمِ وجوه العبادَاتِ، والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ، وابنُ آدم متنقِّلٌ في هذه الثلاثِ الهيئاتِ، لا يَخْلُو في غالب أمْرِه مِنْها فكأنها تحصرُ زمنه، وكذلك جَرَّتْ عائشةُ (رضي اللَّه عنها) إلى حصر الزَّمَن في قَوْلها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ أَحْيَانِهِ».

قلت: خرَّجه أبو داود، فدخَلَ في ذلك كونه على الخَلاَءِ وغيره.

وذهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } إنما هو عبارةٌ عن الصَّلاة، أي: لا يضيِّعونها، ففي حال العُذْر يصلُّونها قعوداً، وعلى جُنُوبهم، ثم عَطَف علَىٰ هذه العبادةِ التي هِيَ ذكُرْ اللَّه باللسان، أو الصَّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرَىٰ عظيمةٍ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرة اللَّه تعالَىٰ ومخلوقاتِهِ، والعِبَرُ التي بَثَّ. [المتقارب]
وَفِــي كُــلِّ شَــيْءٍ لَــهُ آيَــةٌ   تَــدُلُّ عَــلَــىٰ أَنَّــهُ وَاحِــدُ
قال الغَزَّالِيُّ: ونهايةُ ثمرة الدِّين في الدُّنيا تَحْصيلُ معرفة اللَّه، وتحصيلُ الأُنُس بذكْرِ اللَّهِ تعالَىٰ، والأنسُ يَحْصُلُ بدوامِ الذِّكْر، والمعرفَةُ تحصُلُ بدوامِ الفِكْرِ. انتهى من «الإحياء».

ومَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علَىٰ قومٍ يتفكَّرون في اللَّه، فَقَالَ: " تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَقْدُرُونَ قَدْرَهُ ". قال * ع *: وهذا هو قَصْدُ الآية في قوله: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.

وقال بعض العلماء: المتفكِّر في ذاتِ اللَّهِ كَالنَّاظر في عَيْنِ الشمْسِ؛ لأنه سبحانه لَيْسَ كمثله شيء، وإنما التفكُّر وٱنبساطُ الذِّهْن في المخلوقاتِ، وفي أحوالِ الآخِرَةِ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ " وقال ابن عبَّاس، وأبو الدَّرْدَاء: فكْرَةُ ساعَةٍ خيُرٌ من قيامِ لَيْلَةٍ، وقال سَرِيٌّ السَّقطِيُّ: فكرةُ ساعةٍ خَيْرٌ من عبادة سَنَةٍ، ما هو إلاَّ أنْ تحلَّ أطناب خَيْمَتِكَ، فَتَجْعَلها في الآخِرَةِ، وقال الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَن: الفكْرةُ مِرآةُ المُؤْمنِ، ينظر فيها إلَىٰ حسنَاتهِ وسيِّئاته، وأخذ أبو سليمان الدَّارانِيُّ قَدَح الماء؛ ليتوضَّأ لصلاة الليلِ، وعنده ضيْفٌ، فرآه لما أدخَلَ أصبعه في أُذُنِ القَدَح، أقام كذلك مفكِّراً حتى طلع الفَجْر، فقال له: ما هذا يَا أبا سليمان؟ فَقَالَ: إني لما طَرَحْتُ أصبعي في أُذُنِ القَدَحِ، تذكَّرت قول اللَّه سُبْحَانه:إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِي أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ } [غافر:71]، فتفكَّرت في حالِي، وكيف أتلَقَّى الغُلَّ، إنْ طُرِحَ في عُنُقِي يوم القيامة، فما زلْتُ في ذلك حتى أُصْبِحَ.

قال * ع *: وهذه نهايةُ الخَوْف، وخَيْرُ الأمور أوساطها، وليس علماء الأمَّة الذين هم الحُجَّة علَىٰ هذا المنهاج، وقراءةُ علْمِ كتابِ اللَّه ومَعَانِي سُنَّة رسُوله لِمَنْ يفهم ويُرْجَىٰ نَفْعُه أفضَلُ من هذا، لكنْ يَحْسُنُ ألاَّ تخلُوَ البلاد مِنْ مثل هذا.

السابقالتالي
2