الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ } * { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ } * { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ }

وقوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ... } الآية: هذا ٱستمرارٌ في عتبهم، وإقامةُ الحُجَّة علَيْهم: المَعْنَىٰ أنَّ محمدًا ـــ عليه السلام ـــ رسُولٌ كسائرِ الرُّسُلِ قد بَلَّغ كما بلَّغوا، ولزمكم أيُّها المؤمنُونَ العَمَلُ بمُضَمَّن الرسالة، وليسَتْ حياته وبَقَاؤه بَيْنَ أظهركم شَرْطاً في ذلك؛ لأنه يَمُوتُ؛ كما مَاتَتِ الرُّسُل قبله، ثم توعَّد سبحانه المُنْقَلِبَ علَىٰ عَقِبَيْهِ بقوله: { فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً }؛ لأن المعنَىٰ: فإنما يضرُّ نفسه، وإياها يوبق، ثم وعد الشاكِرِينَ، وهم الذين صدَقُوا، وصَبَرُوا، ومَضَوْا في دينهم، ووَفَّوْا للَّه بعَهْدهم؛ كسعدِ بْنِ الرَّبيع، ووصيته يومئذٍ للأنصار، وأَنَسِ بْنِ النَّضرِ، وغيرهما، ثم يَدْخُلُ في الآية الشاكرون إلى يوم القيامةِ، وقال عليٌّ (رضي اللَّه عنه) في تفسير هذه الآية: الشاكِرُونَ الثَّابِتُونَ على دِينِهِمْ؛ أبو بَكْر، وأصحابه، وكان يقولُ: أبُو بَكْرٍ أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ؛ إشارة منه إلى صَدْعِ أبي بَكْر بهذه الآيةِ يوم مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وثبوتِهِ في ذلك المَوْطِن، وثبوتِهِ في أمْرِ الرِّدَّة، وسائرِ المواطنِ التي ظَهَرَ فيها شُكْرُهُ، وشُكْرُ الناس بسببه، ثم أخبر عزَّ وجلَّ عن النفوسِ؛ أنها إنما تَمُوتُ بَأجَلٍ مَكْتُوبٍ محتومٍ عند اللَّه تعالَىٰ، أي: فالجُبْنُ والخَوَرُ لا يزيدُ في الأجَلِ، والشَّجَاعَةُ والإقدامُ لا ينقصُ منه، وفي هذه الآية تقويةٌ للنفوس في الجهادِ، وفيها ردٌّ على المعتزلة في قَوْلِهِمْ بِالأَجَلَيْنِ.

وقوله سبحانه: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا... } الآية، أي: نؤت من شئْنا منها ما قُدِّرَ له؛ يبيِّن ذلك قولُهُ تعالَىٰ:مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ } [الإسراء:18]، وقرينةُ الكلامِ تقتضي أنه لا يؤتَىٰ شيْئاً من الآخرة؛ لأنَّ مَنْ كانَتْ نيَّته من عمله مقصورةً على طَلَب الدُّنْيا، فلا نَصِيبَ له في الآخرة، والأعمال بالنيَّات، وقرينةُ الكلامِ مِنْ قوله: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } لا تمنع أنْ يؤتَىٰ نصيباً من الدنيا، قال ابنُ فُورَكَ في قوله تعالى: { وَسَنَجْزِي ٱلشَّـٰكِرِينَ }: إشارة إلى أنه ينعِّمهم بِنعَمِ الدُّنْيا، لا أنهم يقصرون عَلَى الآخرة.

ثم ضَرَب سبحانه المثل للمؤمنينَ بمَنْ سَلَف مِنْ صالح الأمم الذين لم يَثْنِهِمْ عن دينهم قَتْلُ الكُفَّار لأنبيائِهِمْ، فقال: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ... } الآية: وفي «كَأَيِّنْ» لغاتٌ، فهذه اللغة أصلها؛ لأنها كافُ التشبيه دخلَتْ علَىٰ «أيٍّ»، و «كَأَيِّنْ» في هذه الآية في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، وهي بمنزلة «كَمْ»، وبمعناها تعطَىٰ في الأغلب التكثيرَ، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو: «قُتِلَ» مَبْنياً لما لم يسمَّ فاعله، وقرأ الباقُونَ «قَاتَلَ»، فقوله: «قُتِلَ»، قال فيه جماعةٌ من المفسِّرين، منهم الطَّبريُّ: إنه مستند إلى ضميرِ «نَبِيٍّ»، والمعنى عندهم أنَّ النبيَّ قُتِلَ، ونحا إليه ابنُ عَبَّاس، وإذا كان هذا، فـ «رِبِّيُّونَ» مرتفعٌ بالظرف بلا خلاف، وهو متعلِّق بمحذوفٍ، وليس متعلِّقاً بـ «قُتِلَ»، وقال الحَسَن بْنُ أبي الحَسَن وجماعة: إنَّ «قُتِلَ» إنما هو مستندٌ إلى قوله: «رِبِّيُّون»، وهم المقتولُونَ، قال الحَسَن، وابنُ جُبَيْر: لم يقتل نبيٌّ في حَرْبٍ قطُّ.

السابقالتالي
2